كيف فرض الشرق الأوسط نفسه على ساركوزي؟

TT

عقد نيكولاس ساركوزي قبيل توليه رئاسة فرنسا في مايو (آيار) الماضي سلسلة من الجلسات غير الرسمية مع عدد من المختصين في مجال الشؤون الخارجية. وتناولت غالبية تلك الجلسات مستقبل علاقات فرنسا الخارجية مع الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة، فيما تناولت واحدة من الجلسات العلاقة مع تركيا وأخرى العلاقة مع ايران. إلا ان المسألة الفلسطينية ـ الاسرائيلية والشرق الاوسط بصورة عامة لم يحظيا بجلسة خاصة بهما. الشعور السائد في دوائر السياسة الخارجية في فرنسا يتلخص في ان ساركوزي سيقود السياسة الخارجية الفرنسية بعيدا عن موقفها التقليدي، والمثير للجدل في الكثير من الأحيان، في الشؤون العربية والأفريقية.

رغم ذلك وجدت ادارة ساركوزي الجديدة نفسها في معمعة الشؤون العربية والأفريقية في اول شهر لها. إذ ان برنار كوشنار، وزير الخارجية الجديد، اختار بيروت لأول زيارة له بعد أيام من تعيينه وزيرا للخارجية. وأكد في بيروت التزام فرنسا مجددا بسياستها المؤيدة بقوة للحكومة اللبنانية، ووجّه تحذيرات قوية الى سوريا بعدم التدخل في شؤون لبنان. وبعد أسبوع من فوز حزب ساركوزي بأغلبية في البرلمان الفرنسي، أكدت سيطرته على الحكم، استقبلت باريس رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة على النحو الذي تستقبل به رؤساء الدول.

فؤاد السنيورة ليس الزعيم العربي الوحيد الذي يظهر في باريس عقب فوز ساركوزي بالرئاسة. إذ سبقه الى العاصمة الفرنسية الرئيس اليمني علي عبد الله صالح، الذي يبدو انه ترك انطباعا ايجابيا لدى الزعيم الفرنسي. وقالت مصادر مقربة من الأليزيه إن صالح تحدث مع ساركوزي بصورة مفصلة حول خطر الارهاب الذي يتهدد العالم الاسلامي وأوروبا.

وأرسل ساركوزي من جانبه هذا الاسبوع دبلوماسيا رفيعا الى طهران للإطلاع على الموقف الايراني بصورة مباشرة، خصوصا فيما يتعلق بالنزاع بين طهران والاتحاد الاوروبي بشأن المسألة النووية.

لم يقتصر جدول أعمال ساركوزي على المسألة النووية الايرانية والإرهاب في العالم الاسلامي. فقد صادق الرئيس الفرنسي الجديد على مبادرة كوشنار بشأن عقد مؤتمر دولي حول دارفور. وظل كوشنار، وهو اشتراكي له سجل معروف في العمل في القضايا الانسانية، يناشد بعقد هذا المؤتمر منذ عام 2004، إلا ان الرئيس السابق جاك شيراك تجاهله واعتبره نزاعا لا ناقة لفرنسا فيه ولا جمل.

إلا ان ساركوزي صادق فورا على فكرة كوشنار وجرت الترتيبات بالفعل لعقد المؤتمر الدولي حول دارفور في زمن قياسي. وشاركت في المؤتمر رموز رئيسية، بمن في ذلك الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، ووزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس.

وعلى الرغم من عدم مشاركة الحكومة السودانية، فإن الأمين العام لجامعة الدول العربية، عمرو موسى، شارك في المؤتمر لإظهار التأييد للمبادرة الفرنسية. الأمر الأكثر اهمية، ان الصين مثلها دبلوماسي رفيع المستوى في المؤتمر.

ومن المبكر تقدير ما اذا كان مؤتمر باريس سيساعد على انهاء مأساة دارفور. غير أن ما هو مؤكد أن المؤتمر قرّب الموقفين الأوروبي والاميركي بصورة اكبر. ويوفر الاتفاق على تشكيل قوة حفظ سلام أفريقية وغير أفريقية تضم في قوامها 28 ألف شخص تحت راية الأمم المتحدة إطار عمل يمكن أن يدعم المجتمع الدولي عبره نواياه الحسنة بالقوة عندما يكون ذلك ضروريا.

وعلى الرغم من مشاركتها المبكرة في قضايا نوقشت أعلاه فإن ادارة ساركوزي الجديدة لم تعط أي مؤشر حتى الآن حول سياساتها المستقبلية تجاه الدول العربية. وتضمن برنامج ساركوزي الانتخابي اقتراحا لإقامة إطار عمل اوروبي متوسطي يضم، طبيعيا، الدول العربية في شمال أفريقيا اضافة الى مصر والأردن ولبنان وأخيرا سوريا. غير أن الفكرة لم يجر تفصيلها. كما لم يذكرها ساركوزي في أي من تصريحاته الكثيرة خلال الأسابيع القليلة الماضية.

وعلى العموم فإن من السابق لأوانه تقدير اية طريقة يمكن ان يتبعها ساركوزي تجاه الدول العربية. ويؤكد بعض مساعديه أن فرنسا كانت مخطئة في افتراض ان هناك «عالما عربيا» مثل هذا وان المصالح الفرنسية يمكن أن تجري خدمتها بصورة افضل لو أن باريس تعاملت مع كل دولة من الدول الـ 22 الأعضاء في الجامعة العربية بصورة مستقلة وعلى اساس ثنائي.

وأيا كان الشكل النهائي فإن سياسة ساركوزي بشأن الشرق الأوسط ستكون مختلفة بالتأكيد عن سياسة إسلافه بثلاثة طرق على الأقل.

فساركوزي، أولا، لا ينظر الى فرنسا كمنافس للولايات المتحدة، ناهيك من كونها خصما في النفوذ في الشرق الوسط. ومن المحتمل ان يسعى الى تعاون وثيق مع واشنطن في طائفة من القضايا، خصوصا تلك المرتبطة بمكافحة الارهاب وضمان إمدادات الطاقة ومنع الطموحات الاقليمية للجمهورية الاسلامية. وفي ذلك السياق يدرس مساعدو ساركوزي اقتراحا بزيارة رسمية الى باريس يقوم بها رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي.

ولم يؤيد ساركوزي الحرب في العراق علنا ولكنه أوضح على الدوام أنه لم يكن نادما على سقوط صدام حسين. وكان كوشنار، من ناحية أخرى، قد شارك في حملات لإبعاد صدام حسين عن السلطة منذ عام 1991. وعارض الرجلان حملة شيراك لإنقاذ صدام حسين عام 2003. ووصف ساركوزي موقف شيراك في ذلك الوقت باعتباره «فظا». وبينما لا يرغب ساركوزي في مشاركة فرنسا في النزاع في العراق فانه واثق من أنه سيتخذ موقفا أكثر ايجابية تجاه مساعدة العراق الجديد في اعادة بناء اقتصاده ومؤسساته. وتأمل شركات نفط فرنسية كبرى انه بابتعاد شيراك عن الصورة ستكون قادرة على العودة الى العراق وتسعى الى حصة في تطوير موارده الهائلة في مجال الطاقة.

ومن ناحية ثانية فان من المحتمل ان يبعد ساركوزي السياسة الفرنسية عن اعتمادها الكبير على العلاقات الشخصية مع الزعماء في المنطقة. وهذا سيبعدها عن الغموض الذي ظل يميز علاقات فرنسا مع معظم الدول العربية.

وأخيرا فان ساركوزي قد يتبنى على الأقل جزءا من تحليل كوشنار الذي بموجبه لا يمكن لسياسة خارجية أن تفلح ما لم تستند إلى طائفة من القيم وتستخدم كأداة لتحقيق الاصلاح والتطور الدائم.

وحتى الآن يطرح ساركوزي نفسه باعتباره الشخص المسؤول عن السياسة الخارجية بينما يمارس كوشنار الدور الثاني. واللاعب الثالث في هذه اللعبة هو جان ديفيد ليفيت، وهو واحد من دبلوماسيي فرنسا الأكثر خبرة واحتراما، والذي يحتل موقعا رسميا هو مستشار الرئيس. وبينما يمثل كوشنار المثالية فان ليفيت جيء به ليمثل الواقعية السياسية. وكل هذا يمكن أن يشجع بعض التوتر الابداعي في صنع وتنفيذ السياسة، ولكنه يمكن أيضا أن يؤدي الى خصومات ونزاعات بين الأطراف. وما هو مؤكد هو ان السياسة الخارجية الفرنسية في ظل ساركوزي لن تكون باهتة وسلبية ولا طائل من ورائها كما كان الحال في ظل حكم شيراك.