العبور على عوامل الفرقة والفتنة

TT

لا أعتقد أن أحدا على استعداد لأن يحسن الظن بأي مسؤول إسرائيلي فتاريخهم معنا أنهم لا يتخلون أبدا عن نواياهم العدوانية والتوسعية، وعن رفضهم الاعتراف بأن لغيرهم حقوقا أو الإقرار بأن هناك قوانين دولية معترفاً بها تنطبق عليهم كما تنطبق على غيرهم، وذلك اعتماداً على وقوف القوة العالمية الأولى معهم غالباً في كل الظروف لاعتبارات كثيرة لعل أهمها القوة الانتخابية المنظمة للجماعات اليهودية التي تلعب دوراً فعالاً في غياب قوى أخرى قادرة على خلق توازن يعيد بوصلة المواقف الأمريكية إلى مواقف أقرب إلى العقل والإنصاف.

ونلاحظ أنه في كل مرة اضطرت فيها اسرائيل ـ مهما كانت قيادتها عمالية أو ليكودية أو أكاديمية أو غير ذلك ـ الى الإقرار بحق عربي، فلقد كان ذلك وهي مضطرة، وأشير بالذات إلى أنه لولا انتصار مصر في حرب أكتوبر المجيدة واستغلالها هذا الانتصار في سلسلة من الخطوات السياسية والقانونية الناجحة لما انسحبت إسرائيل من جنوب لبنان، ولما انسحبت من غزة التي كانت تعتبرها عبئاً عليها، فعندما ازداد العبء اخترعت نظرية غزة أولاً وكان المقصود أن تكون أولا وأخيرا لولا إصرار مصر على أن يقترن الانسحاب من غزة بانسحاب من جزء من الضفة الغربية ـ أريحا ـ تأكيداً لوحدة الوطن الفلسطيني.

وعلى ذكر غزة فإني أذكر تماماً أننا بينما كنا ـ كوفد مصري برئاسة الوزير محمد إبراهيم كامل ـ ننتظر في مطار بن غوريون الطائرة التي تعود بنا الى القاهرة بعد أن أمر الرئيس السادات بسحب الوفد المصري، قضى معنا موشي ديان ثلاث ساعات يلح فيها على أن تسترد مصر القطاع فوراً، ولكن هذه قصة أخرى.

ولكي أعود الى السياق، فإن إسرائيل كلما اضطرت الى التخلي عن أرض عربية احتلتها كانت تفعل ذلك وفي خلفية تفكيرها أن تحصل في المقابل على ثمن باهظ. وأضرب مثلاً بسيناء. فعندما وافقت إسرائيل على جلائها كانت تتصور أنها تستطيع أن تحصل في مقابل ذلك على إخراج مصر من المعركة، مما يتيح لها الاحتفاظ بالأراضي الفلسطينية واللبنانية والسورية، وكان هذا الفكر محاولة لاستغلال الخلاف الذي نشب حينئذ بين مصر والدول العربية عندما لم نحسن للأسف توزيع الأدوار كما يفعل غيرنا. وكان هذا الفعل بعيداً كل البعد عن نوايا مصر التي كانت تسعى الى تحرير كل الأرض العربية المحتلة في 1967 وإقامة الدولة الفلسطينية، ولم تتخل قط عن هذا الهدف، رغم محاولات الوقيعة التي درجت عليها إسرائيل للتهرب من مسؤولياتها القانونية والأخلاقية.

وأنا أذكر هذا بمناسبة الموقف الإسرائيلي من الموقف الفلسطيني الحالي المحزن والمخزي.

فليس صحيحاً أن إسرائيل تقف مع الشرعية، أو أنها تريد التخفيف عن الشعب الفلسطيني، أو أنها تريد أن تنفذ التزاماتها بمقتضى اتفاقيات وقعت عليها فنقضتها في كل عهود رؤساء وزرائها من بيريز ورابين ونتنياهو وباراك وشارون وأولمرت. فما زلنا نذكر كيف عومل عرفات الذي وقع اتفاقيات أوسلو، وحاولت إسرائيل أن تفرض عليه شروطاً غير ممكنة ولا معقولة، ثم تعللت بذلك لكي ترفض المضي قدماً في طريق التسوية، ثم تحبسه في المقاطعة حيث قتلته بالسم أو بغيره، بعد أن اتهمته بأنه إرهابي وضعيف وفي نفس الوقت غير قادر على الوفاء بالتعهدات التي مزقتها هي. وعندما جاء أبو مازن تظاهروا بالترحيب به كزعيم يمكن التعامل معه، ولكنهم في الواقع اتبعوا معه سياسة أضعفته وأضعفت موقعه، رافضين الوفاء بالتزاماتهم، وهم يدركون أن الأسلوب الحقيقي لتحقيق الأمن ـ إذا كان هذا ما يطلبونه ـ هو حدوث تحرك حقيقي في طريق التسوية عن طريق الإفراج عن المعتقلين، ووقف عمليات القتل والتدمير والاقتحام، والكف عن بناء المستعمرات الجديدة وإزالة المستعمرات التي وصفوها هم أنفسهم بأنها غير مشروعة مع أن كل المستوطنات غير مشروعة وفقاً للقانون الدولي.

ولما أدت هذه السياسات ـ بالإضافة إلى اعتبارات أخرى يعرفها الجميع ـ إلى إضعاف فتح، جاء الإصرار الأمريكي على إجراء انتخابات تشريعية تمت بشفافية ونزاهة تحت رقابة دولية وأتت بحماس إلى الحكم. ودونما إعطاء الحكم الجديد فرصة التأقلم مع الواقع تم فرض حصار استهدف ليس فقط تجويع الشعب الفلسطيني، بل الوقيعة بين فئاته وزرع بذور الاضطراب بين أبنائه، مما أوصلنا إلى المأساة التي عشناها وما زلنا نعيشها.

وليست هذه محاولة لتبرئة أو إدانة فتح أو حماس، فقد سبق أن قلت إنه ليس بينهم أبرياء، وأن الذنب يمسك بتلابيب الجميع حتى إذا تفاوتت درجاته. ولكني أحاول أن أوضح الدور الإسرائيلي الذي ما زال مستمراً في الوقيعة. فقد رأينا كيف أنهم رفضوا وحرضوا غيرهم (أو حرضهم غيرهم) على عدم التعامل مع حكومة الوحدة الوطنية التي كان يمكن أن توفر الأساس والسبيل لجهد حقيقي نحو التسوية إذا كانت التسوية مطلوبة حقاً. ولكن استمرار الحصار الدولي، بالإضافة الى تحركات مشبوهة أدت الى أحداث لا نملك إلا إدانتها مهما كان الفريق الذي يتحمل مسؤولياتها، ومواقف تصاعدت دونما داع رغم محاولات التوفيق والتهدئة، كل هذا أدى إلى الانفجار الذي انفطرت له قلوبنا. وبدلا من العمل على تهدئة الأمور، لأن تلك التهدئة هي وحدها الكفيلة بتجاوز الكارثة، رأينا الولايات المتحدة وأوروبا تسارعان إلى رفع الحصار عن الضفة الغربية، وإسرائيل تسارع بالإعلان عن رد الأموال التي كانت تحتجزها بالمخالفة للقانون، وعن النية في الإفراج عن بعض المعتقلين المنتمين الى فتح وحدها، مع توفير أسلحة. وإذا لم يكن هذا محاولات لإذكاء النار، مما يزيد إشعال الفتنة، والتفريق بين الضفة والقطاع، مما يزيد في واقع الأمر من التوتر والمخاطر، ويسير ضد أية محاولة جادة للتسوية، وصولاً الى سلام حقيقي هو قطعاً لمصلحة كل الأطراف، إذا لم يكن ذلك كل ما ذكرت فبماذا نسميه؟ وإذا لم يكن هذا محاولة للإساءة في النهاية الى صورة فتح بعد أن تشوهت صورة حماس، فماذا يكون؟

وإزاء ذلك فإني أرى أن الموقف الذي أعلنه الرئيس مبارك في ختام القمة الرباعية التي انعقدت في شرم الشيخ من ضرورة استئناف الحوار بين المنظمات الفلسطينية، هو الموقف الصحيح واجب الاتباع، على عكس الموقف الخاطئ الذي أعلنه أبو مازن من رفض الحوار بدعوى رفض التحدث الى من وصفهم بأنهم قتلة وانقلابيون، مع أنه يعرف أن الطرفين مذنبان، وأن الدستور لم يحترم بل اتخذت إجراءات تخرقه خرقاً بالغاً جعل الشرعية تهتز اهتزازاً شديداً أدى الى اعوجاج لن ينصلح إلا باستئناف الحوار، بحضور الأطراف العربية القادرة والراغبة في الإسهام في تجنيب الأمة العربية الوقوع في الفخاخ التي تنصب لها والتي يختار البعض منا للأسف الوقوع فيها.

ويكمل ذلك التطبيق الدقيق للقرار الذي أصدره وزراء الخارجية العرب الذي ـ رغم ظاهر النص في بعض أجزائه ـ جاء متوازنا لا ينحاز إلا لمصلحة الشعب الفلسطيني، وهي التي يجب أن تشغلنا قبل أن يشغلنا أي شيء آخر.

وأرجو أن يسمع القادة الفلسطينيون ـ الذي أصابونا بخيبات امل ـ نداء العقل وألا يستمعوا إلا الى صوت من أثبتوا بأقوالهم وأفعالهم وتضحياتهم أنهم الأمناء.

ولعله من المناسب أن نشير أيضاً الى اجتماع اللجنة الرباعية الدولية الأخير استكمالاً لسلسة اجتماعات لم تستطع أن تخطو بالقضية أية خطوة حقيقية الى الأمام لأن اللجنة انقادت للأسف لمواقف أمريكية مختلفة عن روح الإنصاف التي تميزت بها أوروبا من قبل، وعن المساندة الروسية القوية السابقة للموقف العربي، وعن جوهر التزام الأمم المتحدة بقراراتها نصاً وروحاً. أما عن اختيار رئيس وزراء بريطانيا السابق توني بلير ـ الذي أحترمه كسياسي محنك وموهوب، وإن كنت أعارض مواقفه من كثير من المشاكل التي تهم منطقتنا ـ مبعوثا دوليا الى الشرق الأوسط، فالمؤكد أن موقفه على الأقل من غزو العراق يقلص من قدرته على التأثير الفعال.