هدية ثمينة إلى بوش.. من باريس!

TT

شكّل الرئيس الفرنسي، نيكولاس ساركوزي، خلال حوالي خمسة أسابيع حكومة لم ير الفرنسيون مثيلا لها في التنوع والقبول من مختلف الأحزاب السياسية. كما أنه أطلق أو وافق على مبادرات فرنسية بشأن دارفور وكوسوفو ولبنان والاندماج الأوروبي. يضاف الى ما سبق انه اتخذ قرارا بتعيين جهات مراقبة للوقوف على مدى التزامه بالوعود المتعددة التي أطلقها خلال حملته الانتخابية.

الدافع والعامل المحفز للتغيير امتد حتى الى السياسة الخارجية الفرنسية، المعروفة بكونها نموذجا للاستمرارية والمسكونة بهاجس الاهتمام أولا وأخيرا بالمصالح. لحظة المرونة الفرنسية هذه ربما تمثل فاتحة لإدارة بوش لكي تعمل على تقويم بعض سياساتها الخارجية المتعثرة.

فاجأ ساركوزي الاشتراكيين الغاضبين عقب فوزه في 6 مايو (أيار) الماضي على منافسته مرشحة الحزب الاشتراكي، سيغولين رويال، بتعيين برنارد كوشنر، الذي تشير نتائج استطلاعات الرأي الى أنه الشخصية الأكثر شعبية في الحزب الاشتراكي، وزيرا للخارجية. أثارت هذه الخطوة سخط أعضاء حزب الديغوليين الجدد، إذ كان يأمل هؤلاء أن تكون مثل هذه المواقع من نصيب حزبهم، إلا أن ساركوزي وضع شكاواهم جانبا وقال إن الولاء الحزبي وحده ليس كافيا للحصول على موقع في حكومته.

كما أنه منذ الانتخابات البرلمانية يوم الأحد الماضي، وهي الانتخابات التي فاز فيها حزبه بأغلبية عادية، وسع دائرة حكومته المكونة من مجموعة من النجوم السياسيين لتشمل المزيد من الاشتراكيين والمحسوبين على تيار الوسط، كما أنه عيّن نساء من أصول أفريقية وعربية في مواقع مهمة. فقد اتخذ قرارا بتعيين فاضلة عمارة، الناشطة النسائية التي قادت احتجاجات تطالب بحماية النساء المسلمات ومنحهن حقوقهن، نائبة لوزير التخطيط الحضري، كما تولت رشيدة داتي، المتحدرة من أسرة مهاجرين مغربية، وزارة العدل. ويمكن القول باختصار إن هذه الحكومة تفوقت على أي إدارة أميركية في التنوع الإثني والاجتماعي والسياسي وفي جانب الجرأة أيضا.

المتشككون يرون أن ساركوزي يحاول الاستعراض وأنه سيدير الحكومة من قصر الإليزيه عبر الطاقم العامل معه. وأقول هنا إنني أكثر ميلا الى تصديق ما ذهب اليه عندما قال إن الحكومة الوحيدة التي تناسب فرنسا هي التي تحقق نجاحا في إقناع الفرنسيين بقبول تغييرات عميقة. وربما يكون ساركوزي قد استفاد من العواقب الفظيعة الناتجة عن محاولة بوش إدارة الوزارات من البيت الأبيض. وهناك بعض الأدلة على هذا الموضوع. فبعد أدائه اليمين مباشرة طلب ساركوزي من وزيري الخارجية والدفاع أن ينظما سلسلة مراجعات للسياسة الخارجية غير المعلنة ولكن النشطة، وهي ممارسة نموذجية بالنسبة للرؤساء الجدد في واشنطن وليس في باريس. ويعزز اختياره الملهم لكوشنر لوزارة الخارجية إحساسي بأن ساركوزي يمكن أن يتسامح مع الشخصيات القوية ذات العقل المستقل، إذا ما نجحت.

ويعرف كوشنر، الذي وصفته الـ«بي.بي.سي» بدقة باعتباره «إنسانيا متشددا»، العالم لا عبر قاعات المؤتمرات الدبلوماسية المريحة في جنيف أو طوكيو، وإنما عبر العمل كطبيب مع المشردين والجياع والمرضى في العالم الثالث.

فكوشنر هو مؤسس منظمة (أطباء بلا حدود) وعمل كحاكم لكوسوفو عينته الأمم المتحدة. وهو يعرف الرئيس العراقي جلال طالباني منذ أن كان طالباني زعيما لحرب العصابات. ومهدت لقاءاته السابقة مع وزير خارجية السودان كمتمرد يقاتل في الصحراء، الطريق الى زيارته المثمرة للخرطوم في الشهر الحالي. وأبلغ كوشنر صديقا في الفترة الأخيرة «أنه من المفيد أنني أعرف أشخاصا كانوا متمردين ومعارضين وهم الآن شخصيات فاعلة في هذه النزاعات. إنه لأمر مفيد عندما أفكر بذلك». إنه يعامل الحياة كشكل فني يلعب فيه دور بطل سيواصله من قصر وزاري واقع على الضفة اليسرى من نهر السين.

ويعتبر كوشنر، الناشط في حملات ضد انتهاكات حقوق الإنسان، وبالتالي الخصم المديد لصدام حسين الذي دعم الإطاحة به، منفتحا على العمل مع الولايات المتحدة، كما هو حال ساركوزي وجان ديفيد ليفي، المستشار الموهوب الجديد للشؤون الخارجية لدى الرئيس في الإليزيه والسفير السابق في واشنطن. لقد منح التاريخ هدية ثمينة لإدارة بوش يتعين عليها ألا تتجاهلها.

*خدمة «كتّاب واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»