السلطة التي حجبت الدولة وأجهضت الحركة

TT

كان المرحوم أحمد صدقي الدجاني، القيادي الفلسطيني المعروف، يقول لي دوما «أكبر حماقة ارتكبها إخواننا هو إعلان هذه الدولة الوهمية، ولقد أضافوا عليها حماقة السلطة التي انبثقت عن اتفاقيات أوسلو».. أعلنت الدولة سنة 1988 في الجزائر، وكانت أزمة المقاومة الفلسطينية في أوجها، بعد خروج المقاومة من لبنان، الذي هو رمز عملي لانتهاء حقبة الصراع العربي السلمي مع إسرائيل.

ولم تكن لقرار إعلان الدولة أي دلالة فعلية، باستثناء أن مكاتب منظمة التحرير تحولت إلى سفارة لدولة المنفى التي اتخذتها عاصمة لها ضاحية تونس الشمالية الجميلة الهادئة.

ومن الممكن ربط إعلان الدولة بتحولين بارزين حدثا على الساحة الفلسطينية، هما من جهة اندلاع انتفاضة الحجارة في داخل المناطق المحتلة. ومن جهة أخرى انطلاق المفاوضات الفلسطينية ـ الأميركية بعد تصريح الرئيس الراحل ياسر عرفات بأن ميثاق المجلس الوطني الفلسطيني أصبح ملغىً، إشارة جلية إلى الاعتراف بإسرائيل وإلى التخلي عن العمل المسلح.

أحدثت الانتفاضة حقائق جديدة أهمها ثلاث هي:

ـ بروز معادلة سياسية في الداخل مستقلة عن قيادة منظمة التحرير في الخارج، تمحورت حول وجوه شابة من الزعامات التي أفرزتها المقاومة الشعبية السلمية. لئن كان أغلبها انبثق من الصنوف الخلفية للمنظمة. إلا أن الأمر يتعلق في الواقع بنماذج جديدة مختلفة من حيث الخلفية والاتجاهات والاستراتيجيات عن القيادة التاريخية في المنفى.

ـ بروز حركة حماس، التي سرعان ما تحولت إلى منافس حقيقي لمنظمة التحرير. وعلى الرغم من أن التيار الإسلامي شكل دوما مكونا أساسيا من مكونات الحركة الوطنية الفلسطينية، إلا أن الحركة الجديدة اختلفت من حيث التركيبة والفاعلية عن الاتجاهات الإسلامية التي احتضنتها المنظمة فضلا عن كونها انبثقت من داخل المناطق المحتلة، مما وفر لها هامش استقلال واسع.

ـ تبلور الإطار الدبلوماسي الدولي لتسوية الصراع العربي ـ الإسرائيلي، في إطار التوافق العالمي الجديد الذي تلا نهاية الحرب الباردة، وأثر حركة التضامن الواسعة مع الشعب الفلسطيني التي تولدت عن انتفاضة أطفال الحجارة في مواجهة آلة القمع والدمار الإسرائيلية.

فإعلان الدولة شكل اذن التعبير السياسي عن هذا المناخ الجديد، الذي اعتبر ملائما لحل المشكل الفلسطيني بيد أن شكل الدولة لم يتجاوز الحيز الإعلامي، ولم ينعكس إيجابيا على أداء الحركة الوطنية الفلسطينية، التي تعرضت أوانها لنزف تصفيات مأساوية ذهب ضحيتها اثنان من رموز الحركة هما: الشخص الثاني في التنظيم (أبو أياد) ورجل العمليات الصعبة ومهندس الانتفاضة (أبو جهاد).

لم تتخذ الدولة الجديدة شكل «دولة الجزائر» التي أعلنتها المقاومة الجزائرية في المنفى، قبيل الاستقلال، ولم تنجح في تطوير أساليب العمل السياسي في ما ورد في جلسات المفاوضات المحتشمة مع الولايات المتحدة. والأخطر من ذلك كله، أنها لم تنجح في تأطير الانتفاضة، واستثمار المكاسب الجليلة التي نجمت عنها. وظهر قصور وهشاشة الأداء الفلسطيني الرسمي خلال الأزمة الكبرى المتولدة عن الاحتلال العراقي للكويت، بدخول منظمة التحرير فاعلا سلبيا في أخطر الأزمات الإقليمية العربية المعاصرة.

وهكذا دخلت المركزية الفلسطينية مسار التفاوض السلمي العربي ـ الإسرائيلي الذي انطلق نهاية 1991 من موقع هش وبأوراق مناورة محدودة.

وكان اتفاق أوسلو الذي وقعه أبو عمار في حدائق البيت الأبيض الأمريكي عام 1993 محطة رئيسية في مسار العمل السياسي الفلسطيني، انبثق عن إعلان السلطة الوطنية الفلسطينية المنتخبة التي أضافت بنية مؤسسية ثالثة لتركيبة هذا العمل، إلى جانب منظمة التحرير ودولة المنفى.

وقد اعتبرت أوانها هذه السلطة نقطة تحول جذرية في المسار الفلسطيني على طريق الاستقلال، بما منحته من إطار حكم معترف به إسرائيلياً ودولياً، وبما سمحت به من عودة القيادة التاريخية الفلسطينية من المنفى إلى الداخل.

إلا أن هشاشة وثغرات الاتفاق الذي اتسم بغموض كثيف سرعان ما ظهرت للسطح بعد المرور إلى القضايا الجوهرية المتعلقة بالحل النهائي. والأدهى من ذلك أن سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني التي أريدت مختبرا عمليا لنموذج الدولة الديمقراطية المزدهرة التي وعدت بها حركة المقاومة، تحولت تدريجيا إلى شكل اعتيادي من أشكال الدولة العربية التي ينخرها الاستبداد والفساد وسيطرة الأجهزة الامنية.

وبدت «الدولة الكسيحة» عاجزة عن تأطير الانتفاضة الثانية التي خرجت عن تحكم القيادة السياسية للمنظمة وعن رئاسة السلطة المحاصرة، في الوقت الذي وصل فيه العدوان الإسرائيلي حده الأقصى وجمد مسار التفاوض السلمي الذي لم يستأنف إلا بعد رحيل ياسر عرفات.

وما لم تدركه قيادة منظمة التحرير هو أن مشروع الدولة الفلسطينية بمقاييس اتفاقات أوسلو قد انهار فعلياً على الرغم من التوافق الدولي الجديد حول مبدأ الكيان المستقل، مما يعني عمليا نهاية نموذج السلطة الذي أريد حلا مؤقتا في مسلك مفاوضات الحل النهائي.

ربحت حركة التحرير الفلسطينية سلطة هزيلة تحولت إلى أرضية صراع أهلي مدمر، وخسرت في المقابل دينامية المقاومة وأهلية الحافظ على وحدة الصف الفلسطيني، في حين لا تزال الدولة حقيقة دبلوماسية صرفة.