موسم النمل

TT

«جبر الخواطر على الله»، وأكون كاذبة لو أنكرت فرحتي بما كتبه «سمير عطا الله» عني، في عموده المنشور بالشرق الأوسط 12/6/2007. قال «سمير عطا الله» ثلاثة أشياء مبهجة، الأولى: أنه حريص على قراءة ما أكتبه، والثانية: أنه يختلف معي، والثالثة: أنه لاحظ اختلاط ما يبدو مني مزاحا بالهم القومي، وهذا والله، ما أحاوله دائما، فشكرا له لأنه لاحظ المحاولة، وبناء عليه فأنا أهديه تأملاتي هذه مع النمل.

«حضرة النمل»: أعني بها حضوره الدائم المرادف لكلمة «كاريزما» الأجنبية التي شاع استعمالها للتعبير عن الشخصيات ذات الحضور الطاغي المؤثر في الجماهير.

«النمل» طبعا لديه «كاريزما» لا تتأتى لمخلوق آخر ـ لم يمكنني إطلاق تصنيف حشرة عليه لتداعياتها السلبية ـ النمل مجموع، كتلة، هيئة، منظمة، حكومة، دولة، أمة، لا يمكن أن نراه فردا، فحتى عندما نرى نملة ندرك على الفور أن وجودها المفرد دلالة على وجود الجمع، الحشد، المجموع. معجبة أنا بالنمل. شديدة الإعجاب. هذا مخلوق لا يكتئب، ولا يحبط، ولا ييأس، ولا يخاف. تقتله بالمئات، بالآلاف، بالمليون، بالبليون، وهو غير مكترث. تعوق مساره وتسد منافذه وهو غير مكترث، لأنه شديد التركيز في الهدف مستوعب في مهامه، واثق الخطوة يمشي جنديا جادا ملتزما. لا يهتم بالعدوان الخارجي: لا معاتبة، ولا أخذ على الخاطر، هدفه تعويض الخسائر فورا لمتابعة مهامه.

يدخل مفتاح الإضاءة في سرب طويل صاعد وسرب هابط. أضع صمغا ليسد المنافذ ثم شريطا لاصقا يؤكد الغلق. يتوقف السرب الصاعد ويعود نازلا مع النازل. أبتسم: ها قد انتصرت! أذهب وأعود لأجد دائرة من خبرائه تدور حول المفتاح ثم تتلامس رؤوسها كأنها تتشاور في كيفية اختراق التحصين الجديد. لا غضب، لا عصبية، ولا ارتباك. مواجهة للواقع الجديد ومشاورة في تغييره أو البحث عن بدائل. عندما تلسعني نملة وجدتها تسير على يدي أنظر إليها، فأتأكد من براءتها من الحقد والانتقام، لقد كانت تبحث فقط عن فائدة لها على جلدي من منظور موضوعي بحت، مثلي مثل أي جدار أو أرض أو أي سطح آخر تستكشف فيه فائدة لتدعو إليه حشدها: «يا أيها النمل تعال هنا!»

النمل لا يبكي ولا يضحك. دؤوب. العمل وسيلة وغاية. لعله كذلك لا ينام ولا يسكن ـ ولو في بياته الشتوي ـ هو حركة دائمة. قال لي سائق التاكسي: إن النحل يغضب إذا ازداد عليه الحر، فيترك المكان ويرحل إلى حيث المكان الرطب، لينجز عمله ويفرز العسل. النحل مدلل. النمل شيء آخر: لا تهمه أية ظروف بيئية، ولو كانت الزلازل والبراكين والعواصف، هذا ما يتبدى لي في ملامح شخصيته. النمل مخلوق لا يثير تقززي حتى لو وجدته في سكر أو عسل أو طعام. ما فائدته للإنسان؟ لا أعرف. له أضراره بالتأكيد لكن ربما كانت فائدته تأتي من كونه قدوة تحتذى في العمل والدأب والصبر.

ماذا يفعل داخل الموقد الكهربائي، عند الأسلاك الخطرة؟ يكمن عند سلك الغلاية، فأضع بودرة «البوريك» لتعوق تقدمه. «البوريك» يصده ولا يبيده، وأنا لا أود قتله عمدا إلا اضطرارا. كيف استقر بداخل تلك الأدوات الكهربائية متصورا الأمان عند الأسلاك والحرارة. ألا تلسعه درجة الغليان؟ ألا يتعظ من شهدائه القتلى الذين أدى بهم المسار إلى الغرق في ماء وعاء الغلاية؟ يوميا أسكب الماء وأنظف الوعاء منه، وأسد المنافذ التي أتصورها سبيله في الزحف، ولا تأخذني أية رحمة في قتل فلول الهاربين، ومع ذلك فهو لا يفتأ يعاود المقاومة بهدوء، ومن دون أية تصريحات صاخبة حماسية تتحداني، أو وقوف حدادا على الصرعى. لا بكاء. لا صراخ. لا نهنهة. ما أغربه! ألا تؤلمه أبدا الضحايا التي تؤلمني أنا، جلادها وسفاحها؟ أنا أساسا لست في دائرة اهتمامه. لا يعبأ بي ولا يرجو مني رجاء، هو في وشوشته مع خبرائه، كأن ليس في الوجود سواه، وهو في مسيرته وانصياعه لجدوله الزمني الأبدي في العمل الذي لا ينتهي.