في شرشحة الدساتير

TT

كان الرئيس فؤاد شهاب يسمي الدستور «الكتاب». وإذا سئل في أمر كان له جواب واحد: فلنحتكم إلى الكتاب ونرى بماذا يقضي. ثم تحول الدستور من كتاب الى عجينة، يرقّها كل من يشاء في شكل الرغيف الذي يشاء. وإذ حدث ما حدث للدستور يحدث الآن ما يحدث للبلد. وبموجب ومقتضى الشرشحة الدستورية لا بد أن نتوقع «باسم الدستور» أشياء كثيرة، منها، أو أولها، قيام حكومتين. فإذا قامت حكومتان فإلى من يخضع البنك المركزي؟ لا الى هذه ولا الى تلك، وفي هذه الحال ماذا يحدث لليرة اللبنانية؟ مسكين لبنان! وماذا يحدث للجيش؟ الجيش لن يتقبل الأوامر من هذه الحكومة أو تلك، ولن يسمح لوزير الدفاع الآخر بدخول مكتبه. فماذا سيحصل آنذاك؟ لا ندري. ولكن الذي نعرفه من أسماء شهداء الجيش في نهر البارد أنهم يمثلون فقط بعض طوائف لبنان، مما يعني أن هناك طوائف ترفض، بشكل أو بآخر، آن تخوض معركة الشمال!

على ماذا هو مقبل، لبنان؟ في أكثر الحالات تفاؤلا، يمكن القول إنه مقبل على المجهول. وفي أبسط الحالات واقعية يمكن القول إنه مقبل على المعلوم. وهو أكثر فظاعة بكثير. لأن «المعلوم» في لبنان هو الصراع الداخلي الطاحن والصراع الدولي والإقليمي، الذي يربح الرابحون فيه من دون ألم ويخسر الخاسرون من دون ألم. وكان تشرشل يقول مازحاً إن بريطانيا سوف تظل تقاتل حتى آخر جندي فرنسي. والقوى الإقليمية والدولية المتصارعة سوف تظل تقاتل حتى يهاجر آخر لبناني وتغلق آخر ساحة لبنانية وتصرف آخر ليرة لبنانية ويفتقر كل من لم يفتقر حتى اليوم. هل يمكن لرئيس الجمهورية أن يعلن حكومة ثانية؟ نعم، وباسم الدستور. هل يمكن أن يحل البرلمان مع أن النص الدستوري لا يخوله ذلك؟ نعم. وباسم ما كان يجب أن ينص الدستور عليه؟ هل يتدخل فريق لبناني للتوسط في اللحظة الأخيرة؟ لا. لأن كل فريق وضع لبنان في حقيبته وهو يجول به على المحطات والموانئ. أليس هناك من أمل ولو ضعيف بأن يتجنب اللبنانيون الانزلاق الى الكارثة؟ لا. ليس هناك من أي أمل على وجه الأرض. أما إذا كان هناك أمل من السماء، فإن علمه عند الله. وله تعالى الحكمة الأخيرة والصبر الأخير في أمور خلقه. ووحدها رحمته تتسع لهذا المدى من الزلل والشطط والتمادي في حرق الأوطان وإشعال الأمم. أنا إنسان متفائل في تكويني ومواطن متفائل بالضرورة. فلا وطن لي سوى وطني، ولا أرضاً أحب سوى أرضي. فالباقي حدائق وجنائن ولكن ليست أرضاً. وكم يحزنني وأنا أكتب، ألا أستطيع وضع كلمة تفاؤل واحدة. فكلما تطلعت في هؤلاء الناس وسمعت ما يقولون ورأيت ما يفعلون وماذا يفعل العرب بالقسم الذي يقسمون، خفت وارتعدت وأدركت أن لا أمل.