الشاعر المغدور

TT

خضر الطائي من شعراء العراق الذين هضمت حقوقهم. وبسبب ضيق ذات اليد كان يضطر لنشر دواوينه الى التوسل بالآخرين ليجودوا عليه بكلفة الطبع. تبرع له ذات مرة بالكلفة بقال بسيط على شرط ان يضع اسمه في الكتاب فيقول راجع هذا الديوان السيد الفاضل فلان ابن فلان. وأصبح ذلك نكتة في أن تكون قصائد هذا الشاعر قد راجعها وصححها له أبو حسين الكبابجي أو ابن الحجية الطرشجي. ولكن ما المشكلة إذا كان الشاعر سيحصل على قصائده مطبوعة في ديوان ساعده على طبعه أبو حسين الكبابجي. يعرف زملاؤه حقيقة الأمر فيضحكون ويستأنسون. وبمثل ذلك سيستأنس الأخ الكبابجي وهو يرى اسمه على ديوان شعر محترم ويقترن اسمه باسم شاعر معروف.

يعرف قليل من الناس، ما جاد به خضر الطائي من فضل على فن الغناء. فالمعروف والواقع هو أن سيد المقام العراقي محمد القبانجي لم يكن أكثر علما من أبو حسين الطرشجي أو ابن الحجية الطرشجي. كان هذا الفنان الكبير، مجرد قبانجي. ولكن شاءت الصدف أن يلتقي بالأستاذ الطائي وراح يتلقى منه دروسا في اللغة والأدب. وهكذا نجد أننا مثلما نشعر بأننا مدينون لما أحدثه القبانجي وتركه وراءه من فن المقام، كان القبانجي مدينا لخضر الطائي في صقل لغته. ولا ندري كذلك ما إذا كان القبانجي أيضا قد ساعد الشاعر في طبع أعماله.

كان هذا الشاعر المغدور قضى سنين طويلة معلما بسيطا في المدارس الابتدائية في القصبات النائية من العراق. وبالطبع كان يتحرق شوقا لبغداد كأي بغدادي أصيل. بغداد ست البلاد واللي يشرب ميها لازم يرجع ويعاد. شعر بهذا الشوق اليها عندما كان مديرا لمدرسة الرمادي الابتدائية عام 1941 فبث همومه وعواطف أشواقه في قصيدة طويلة اشتهرت بين الناس. بث فيها معاناة نأيه عنها وشروده عن حياتها الهنية في تلك الأيام الهنية فقال في مطلع القصيدة:

إلام يوسعني نأيا وتبعيدا

عيش قضيت به الأيام تشريدا

نشرت هذه القصيدة عندئذ في الصحف العراقية المحلية وقرأها الجمهور وأعجبوا بها. كان بين من قرأوها السيد سامي شوكت، الذي كان عندئذ مديرا عاما لوزارة المعارف. ورغم أن سامي شوكت لم يكن معروفا كرجل من رجال الأدب والشعر، فإنه اهتز لعواطفها الجياشة. فقال «هذا شاعر يعاني من غيابه عن بغداد ويحن الى حياتها. حرام علينا ان نبقيه بعيدا عنها». فنادى على مدير الذاتية وقال له أصدر على الفور أمرا بنقل المعلم خضر الطائي من مدينة الرمادي الى بغداد. بعد أيام قليلة، فوجئ الشاعر بهذا الكتاب الرسمي بنقله الى حبيبة قلبه بغداد، بدون ان يطالب هو بذلك، أو يوسط أحدا لنقله. كانت مجرد استجابة إنسانية لرغبة إنسان شاعر في زمن كان الناس يقدرون فيه رغبات الناس وعواطفهم. أيام وفاتت.