أبناء ياسين وعرفات.. مراهقة مقاوم أم كهولة سياسي؟!

TT

هل تقف غزة على أعتاب حرب أهلية؟ أم أنه البقاء في فلك حالة «اللادولة»، على كلا الاحتمالين من الضروري أن لا نقع في فخ التبسيط أو ننجرف وراء الضجيج الإعلامي والعاطفة الجياشة التي تسكبها بسخاء قنوات الانحياز لطرف دون آخر، فما حدث يجب أن يفتح شلال الأسئلة الحقيقية لفهم ما جرى من دون الاكتفاء بتسجيل موقف عابر هنا أو هناك..

المسألة من وجهة نظري أعمق من حالة التجاذب الإقليمية التي تقودها «إيران» لاستقطاب الكيانات السياسية التي تعيش وضعية مضطربة داخل الدول التي تنتمي إليها، فوضعية حماس الخاصة بدأت مع تمدد المنظمات التي ترفع شعار المقاومة بعد موت «الختيار» عرفات حيث تحولت تلك المنظمات بكل ما تملكه من مخزون شعبي وقداسة معنوية إلى رساميل سياسية قابلة للاستثمار الخارجي وهو الأمر الذي يكسبها سعراً جيداً في سوق التحالفات لا سيما والغطاء السياسي والإعلامي الذي تجده في عدد من الدول التي تبحث عن دور خارجي لحل مشكلاتها وأزماتها الداخلية.

غياب الختيار أضر بفتح وحماس معاً، فمن جهة أولى كانت حركة فتح تضم تيارات داخلية عديدة تتنازع فيما بينها مما كان يستدعي تدخلاً مستمراً لضبطها وتقليص أزماتها التي كانت في كثير من جوانبها مالية ومتعلقة بالنفوذ وهوالأمر الذي حاول أن يتجاوزه عباس بمأسسة تلك الحالة لكن الحال انقلب بشكل عكسي بسبب عدم استعداد تلك التيارات للانتقال من حالة الفردانية العرفاتية إلى وضعية المؤسسة الحديثة، مسألة الانتقال السلس هذه تفرض إشكاليتها على أكثر من حالة سياسية عربية.

من جهة ثانية كان عرفات مايسترو ناجحا بامتياز في ضبط إيقاع المقاومة بحيث يتم استخدامها باستمرار كورقة سياسية رابحة من دون أن تؤثر أو تتضخم لتلغي الاتفاقيات الدولية أو حتى تمس الشرعية التاريخية لحركة فتح، وهو الأمر الذي تعامل معه عباس بشكل سلبي مع أول حالة تمرد حين استعجل بإعلان قرار إقامة حكومة الوحدة بشكل انفعالي لم تُقرأ عواقبه السياسية حتى الآن، لا سيما وأنه يمكن التأكيد على أنه مع كل ما حدث بين الطرفين، فإن انفصال أحدهما عن الآخر بشكل كلي أمر لا يمكن تصوره، فحماس لا يمكن أن تسيطر بعيداً عن فتح، والأخيرة لا يمكن أن تنفرد بالسلطة من دون اتفاق واضح مع حماس حتى مع احتمالية إعادة الانتخابات والتحكم في نتائجها، فليست الضفة ولا حتى غزة هي فلسطين بالضرورة.

رأس مال حماس لم يكن سياسياً فقط؛ بل كان شعبياً عبر الآلة الإعلامية الضخمة التي تملكها الجماعة الأم «الإخوان المسلمون» والتي ظلت تصور حماس على مدى عقود كخلاص مقدس للقضية الفلسطينية وهذا بالطبع ضر حماس أكثر مما نفعها فالتحول المفاجئ من معارضة نزيهة إلى سلطة مكتوفة الأيدي، قابله فشل ذريع على مستوى الحصافة السياسية لم تؤد فقط إلى خسارة تعاطف المجتمع الدولي وهو أمر لم يكن لحماس أن تصل إليه في ظل الظروف الراهنة، بل تعدى ذلك إلى خسارة تعاطف العديد من الدول العربية التي رأت في وضعية حماس ما بعد السلطة مؤشراً خطيراً على ما يمكن أن تفرزه الديمقراطية الأداة حين يتم التعامل معها ببراغماتية تفرغها من محتواها الحقيقي «برامج سياسية، حريات، تنمية»، وهو الأمر الذي سيتحول إلى كارثة حقيقية لاحقاً متى ما تضخم رأسمال الثوري المقاوم على حساب المكاسب السياسية والتأثير على واقع معقد كالأزمات الحقيقية في الداخل الفلسطيني، وهي أزمات اقتصادية بالأساس.

الآن وقد حدث ما حدث وحركة فتح لم تستفد حتى الآن من الانقلاب الكبير في إعادة صفوفها ومحاولة البدء باستراتيجية تغيير حقيقية لاستعادة دورها التاريخي عبر مكافحة الفساد والمحسوبيات والتجاوزات الأمنية؛ فإن مستقبل الداخل الفلسطيني يبدو غامضاً ومرعباً حتى مع كل ما يقال من جهود وساطة وتقريب؛ فإن الذين استطاعوا أن يقفزوا على «اتفاق مكة» بلا مبالاة سياسية من الصعب أن يعودوا إلى رحاب حكومة وطنية في ظل كل هذا الإرث الثقيل من القتلى والخسائر والأحقاد التي يمكن أن نقرأها ليس من القنوات الرسمية بل على مواقع الانترنت للطرفين وقنوات الدردشة (البالتوك) والمنابر الإعلامية غير الرسمية.

العلاج مهما بدا قاسياً لكنه يجب أن يبدأ بلحظة اعتراف صادقة لمصلحة الجميع، وهي أن ما حدث أخيراً ليس حالة تصحيحية كما يقول أنصار حماس وليس انقلاباً بأي معنى كما يطرح من وجهة نظر فتح، فحماس في وضعية سياسية أضخم بكثير من أن تصور كفصيل متمرد، التوصيف الحقيقي لما حدث ويحدث أنه لا يعدو أن يكون «صراع بقاء» بين تيارين فكريين تيار لم يستطع تحمل تبعة الانتقال من المقاومة بكل ما تحملها من قطعية ووضوح ومباشرة كما الحال بالنسبة لحماس في مقابل شيخوخة فتح السياسية وعجزها عن التخلي عن عرش السياسة بشكل انسيابي معتمدة على الكثير من الحق في نقدها لغموض برنامج حماس وعلائقها الخارجية.. هذا القلق بين فكرين استطاع بكل سلبياته أن يقسو على الشعب الفلسطيني في مدة قياسية بأكثر مما أصابهم به عدوهم البغيض، فظلم القريب أشد قسوة وأنكى.

الأزمة الآن هي بين مقاوم غير سياسي، وسياسي لا يفاوض بشكل جيد، وللخروج من حالة «الصوملة» التي لا نتمناها، يجب الخروج بصيغة جديدة قبل ان ينتهي الوضع من الطرفين إلى استجداء «العدو »، المقاوم بحجة التفاوض على أساس المصالح المتبادلة، والسياسي بحجة إعادة الشرعية، وكلاهما منطقان يسلمان القضية بكل إرثها التاريخي إلى إسرائيل بيد باردة ومرتعشة لطالما تمنت أن تصافحها على ذلك النحو.

[email protected]