العراق.. هل ينبغي قيام معارضة جذرية للنظام السياسي الحاكم؟

TT

هل ينبغي قيام معارضة جذرية لـ«النظام السياسي» الحاكم في العراق؟

تنشأ المعارضات الجذرية، الهادفة لإسقاط أنظمة حاكمة، لأسباب مختلفة، وتستمد شرعيتها من مقاييس أو قيم معينة.

وفي اعتقادنا فإن وجوب نهوض مثل هذه المعارضة في حالة العراق يعود، على الأقل، الى هذين السببين:

1 ـ تعذر إمكانية نجاح النظام في فرض الأمن في البلد. وهذه هي المهمة الأولى دون منازع لأي حكومة في كل زمان ومكان، وبصرف النظر عن نوع الحكم.

لقد تشكلت بنية النظام على أساس متعارض مع استتباب الأمن وقوة القانون. إن المهمة الأولى للدول تصبح ممكنة فقط بوجود قوة أمنية وطنية موحدة: أي جيش، شرطة، أجهزة عدالة جنائية (= قضاء) تعم سلطتها الوطن وتدين بولائها للقانون.

ووجود مثل هذه القوة الوطنية أو الدولتية (بمعنى الخاضعة لقانون دولتها) يتعارض مع المصالح الفئوية الضيقة للتحالف الشيعي ـ الكردستاني الحاكم (وأعني الطبقة السياسية الحاكمة تحديدا وليس الطائفة الشيعية أو القومية الكردية، والتناقض صارخ في رأيي في الحالة الأولى بين مصالح الشيعة كطائفة وكأفراد وبين مصالح الجماعات السياسية التي تزعم تمثيلهم). فالائتلاف الشيعي يسعى الى تعظيم مكاسبه وتوسيع سلطاته في مناطق نفوذه من خلال تجزئة القوى الأمنية لتسهيل السيطرة عليها. وأما بالنسبة للطبقة السياسية الكردية فقد غدا أي وجود أمني من خارج مناطقهم بمثابة احتلال ولو تمثل ذلك الوجود بشرطي مرور.

واكتسبت مساعي تجزئة الأمن وتشتيته طابعا دستوريا من خلال المادة 121 التي خصت حكومات الأقاليم بالمسؤولية الكاملة عن الأمن الداخلي. فهذه المادة تنص على: «تختص حكومة الإقليم بكل ما تتطلبه إدارة الإقليم، وبوجه خاص إنشاء وتنظيم قوى الأمن الداخلي للإقليم كالشرطة والأمن وحرس الإقليم».

وبعبارة أخرى السماح بتحويل الميليشيات الى قوات أمن الأقاليم. وها أنتم ترون الصراع وقد أصبح مكشوفا بين الميليشيات على النفوذ في القوات الأمنية.

2 ـ الطائفية. نشأ النظام العراقي عن عملية سياسية طائفية ـ إثنية قسمت العراق الى شيعة وسنة وكرد، الأمر الذي أعاد البلاد الى ما قبل نقطة انطلاقها الى العصر الحديث، وأدى الى شق وحدة العراق، واشتعال صراعات طائفية دموية، استدعت وتستدعي المزيد من تدخلات إقليمية ودولية ضارة أشد الضرر بما تبقى من مصالح وطنية.

وكلما طال أمد النظام فالصراع الطائفي زاد الاستقطاب بين المتصارعين، وامتد من السطح الى العمق أو من الطبقة السياسية الى صفوف الناس، وهذا يعني استمرار دورة إزهاق الأرواح وتدمير الثروات الى ما شاء الله. كما يعني استحالة استقلال البلاد وصعوبة استعادة وحدتها، وتعذر أمنها واستقرارها.

هذان السببان (تجزئة الأمن الوطني والطائفية) هما بمثابة معين لا ينضب للفوضى والعنف في العراق. وهما ينزعان عن النظام الحاكم أي شرعية. فشرعية أي حكم في عالم اليوم تستمد من هدفين، أو قيمتين، إذا شئتم، وهما الحرية والرفاهية.

والمفارقة أن النظام الحاكم شكل انتصارا شعبيا غير مسبوق لفكرة الدكتاتورية. ففي زمن صدام كانت الدكتاتورية مهزومة أو منبوذة لدى الرأي العام العراقي. أما اليوم فالدكتاتورية حلم كل مواطن عراقي. نعم الى هذا المصير انتهى العراق الأميركي. فأسوأ الأنظمة أفضل من الفوضى. وهي فوضى أصبح الموت والحياة فيها محكومين بالصدفة. بينما الحياة المدنية فيها ممنوعة بتخطيط أو اتفاق الفريقين الإسلاميين المتصارعين: فقد حولت الميلشيات الشيعية والسنية الحياة المدنية الى ذكرى.

يقول برتراند رسل: «في المناطق التي تعمها الفوضى يميل الناس الى الإذعان الى الطغيان والاستبداد. فعلينا أولا أن نؤمن إيجاد الدولة، حتى ولو كانت مستبدة، وعندما يألف الناس حكمها، يمكن تحويلها بعد ذلك الى الأساليب الديمقراطية».

إن العراق الأميركي هو جمهورية الهلع. فليس لدى العائلة أو الفرد أي حماية أو ظهير لرد اعتداء، والكل معرض للقتل أو الخطف أو السرقة أو الانتهاك. ولا يأمن الناس مراكز الشرطة المقسومة بين عصابات أو ميليشات، وبين حيرات وتهديدات.

خلال لقاءات لي بعدد من المسؤولين العراقيين لم ألاحظ «احساسا» لديهم بحالة الهلع التي تكتنف الناس. وهذا ما يمكن، على أي حال، تصوره.... يضرب أحد المفكرين المثل التالي: لنتصور حكومة يعيش أفرادها، خوفا من الاغتيال، عيشا دائما في الطائرات، إلا في فترات عارضة يهبطون فيها أحيانا على مدارج الهبوط القائمة في أعالي الأبراج أو على أمواج البحار، فهل يمكن لمثل هذه الحكومة الإحساس برعاياها والاهتمام برخائهم؟

وهذا هو حال حكومة «الطائرة الخضراء»:

لكل ذلك يجب نهوض معارضة جذرية، سلمية الطابع، تستهدف الوصول بالعراق الى شاطئ الأمان. معارضة معتدلة تلقى إسنادا إقليميا ودوليا، ورعاية من الأمم المتحدة، هدفها تشكيل حكومة انتقالية لمدة خمس سنوات، مثلا، قابلة للتمديد لتولي المهمات الأساسية الآتية:

1 ـ استكمال بناء قوة امنية موحدة (جيش، شرطة، قضاء) في غضون سنة، لتكون قادرة على فرض القانون وتسلم المهمات الأمنية من القوات الأجنبية.

2 ـ تأمين انطلاق حملة دولية لإعادة الإعمار.

3 ـ تنشيط اقتصاد حر كفيل بانبثاق مجتمع مدني منتج للثروات المادية والمعنوية.

4 ـ تشريع قوانين تضمن حريات الكلام والإعلام والتأليف والنشر.

5 ـ السماح بحرية تشكيل أحزاب على أسس وطنية سلمية معتدلة تمنع استغلال المقدسات في أهداف سياسية.

6 ـ وضع قانون انتخابي يأخذ بنظر الاعتبار ضرورة تجنب أخطاء انتخابات تأتي بأقل الحكومات عقلانية وشرعية، وأكثرها ضررا بالحياة والرخاء والحرية.

إن المجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة، يتحمل مسؤولية مباشرة عن صنع عملية سياسية نقلت العراق من التوتاليتارية الى الفوضى، والوحشية من السرية الى العلانية، والتدمير من المجتمع الى الدولة. وإذا توفرت الإرادة الفكرية والسياسية فإن العالم قادر على رعاية ولادة عملية سياسية تكبح انحدار العراق المتسارع الى هاوية بلا قرار. ولعل المثقفين العراقيين، المعنيين عناية المسؤولين الراشدين بمصير بلدهم، قادرون على المبادرة الى تشكيل «ارادة إنقاذ»، وتنميتها، وبلورتها في مشروع يتبناه سياسيون وطنيون مبرأون من الظلامية والفساد.

ألا يخجلنا أن يحن العراقيون الى أيام من كان يعد أشد الأنظمة فتكا؟ وهل هو قدرنا أن ننتقل من نظام خارج على القانون الى نظام إلغاء القانون؟ ألا ترى الخلق جازت من العنب وتريد سلتها؟ ألا تسمع الناس وهي تقول يا روح ما بعدك روح؟ أفلا تشاهدون الوطن بغتة منفى، والعوائل مودعة ديار الألفة وداخلة أفواجا في دروب الوحشة؟

الحياة وحدها مقدسة. وقد أتخم العراق موتا.المهمة إذن هي إعادته الى الحياة!

* كاتب عراقي