أيام فاتت

TT

عندما عدت إلى العراق بعد انقلاب 14 تموز، خطر لي أن أشاهد قصر الرحاب، بعد ان خربه المهاجمون. ما ان دخلت حتى شعرت بخيبة كبيرة. أهذا هو الترف الذي حدثونا عنه؟ دخلت فوجدت ان كثيرا من قصور بغداد كانت افخم منه بالفعل. وبالنسبة لأوربا لا يزيد مستواه عن بيت أي تاجر صغير في لندن. حتى الحمام الذي كان يستعمله ملك العراق رحمه الله، لم يختلف كثيرا عن الحمام الذي كنت استعمله في لندن في بيوت الطلبة. أهذا هو الترف والبذخ الذي حدثونا عنه؟

بيد انه كانت له حكايات بنهايات أسعد وأظرف في أيام الخير.

في العهد الملكي. اعتاد الأمير عبد الأله ان يدعو الى القصر كثيرا من قطاعات المهنيين والخريجين ليتعشوا معه. دأب بصورة خاصة وفي كل سنة على دعوة خريجي الكلية الحربية بعد نيل شهاداتهم. كان معظم هؤلاء الخريجين من المدن والقرى العراقية النائية. فجمعهم عميد الكلية، عبد القادر سعيد، والقى عليهم محاضرة طويلة في كيفية السلوك في مثل هذه الولائم . كيف يجلسون. كيف يأكلون. كيف يستعملون أدوات الطعام وهلم جرا.

حدثني السيد اسماعيل البنا فقال انهم دخلوا القصر، فوجدوا الأمير والملك في استقبالهم. رحب بهم عبد الإله بهذه الكلمات البسيطة. قال يا إخوان لا تعتبرون هذا البيت بيت ملك وأمير، وإنما اعتبروه مثل بيتكم. جلسوا أخيرا لتناول العشاء. ولاحظ عبد الاله، ان الحيرة بدت على وجوههم في استعمال أدوات الأكل. فعاد للكلام وقال، يا إخوان كما قلت، تصرفوا كما لو كنتم في بيوتكم. وخلي نأخذ حريتنا. نأكل كما كان يأكل اجدادنا. بادر فأبعد أدوات الأكل من أمامه وشمر عن ذراعيه وأخذ يأكل بيديه. تبعته عشرات الأيدي وهي تفتك باللحم وتغترف التمن، وتصب المرق على التمن والتمن على البقلاوة والبقلاوة على الزلاطه.

حمدوا الله وشكروا صاحب البيت، وقاموا يتجولون ويتسامرون فيه. لاحظ زهير محمود نديم، أحد الخريجين، علبة أنيقة على احد الرفوف. فتحها فوجدها مليئة بمن السما من نوعية فاخرة. أخذ واحدة منها فأعجبته. أخذ ثانية ثم ثالثة ثم دعا اصحابه الى العلبة. وفي ظرف دقيقتين لم يبق منها شيء. ثم أعاد العلبة الفارغة الى مكانها. استمرت الحفلة حتى آن موعد الانصراف. وقف عبد الاله وقال، يا اخوان قبل ان نودع بعضنا البعض، اريد ان اودعكم بشيء ستحبونه. وصلتني علبة من السما من النوع الممتاز. دعوني اقدم لكم شيئا منها. ثم مد يده والتقط العلبة. لشدة دهشته وجدها خفيفة جدا. رفع الغطاء فوجدها فارغة. احمر وجهه خجلا. كان كمن يريد ان يسخر من ضيوفه، يعزمهم على قوطية فارغة. لم يدر ماذا يقول. ولكن زهير نديم تقدم وقال: سيدي انا آسف. انا فتحت العلبة وأكلناها. تهللت اسارير عبد الإله فقال الحمد لله. الآن خليتوني أشعر أنكم تصرفتم في هذا البيت، كما لو كان بيتكم تماما.