ابتذال اللغة الإعلامية

TT

في البدء كانت الكلمة. الإنسان كائن متكلم. الكلمة أداة لتبادل المعرفة والتجربة بين الناس. الكلمة شكلت اللغة. ثم كانت اللغة الأساس التاريخي لبلورة ثقافة كل أمة وشخصيتها.

الكلمة شرف كبير. أن تقول يعني أن تصدق. الكلمة وعد وعهد. الكلمة عقد شفهي بين الدولة والمجتمع. الدولة تتعهد بأن تضمن الأمن والعدل، في مقابل خضوع المجتمع للنظام والقانون. إذا اختلت هذه المعادلة حدث التذمر، فالتمرد، فالثورات.

مع ولادة السياسة كأداة لإدارة الناس، صعدت قيمة الكلمة كواسطة لتفاهم الدولة السلطانية مع رعاياها. باتت الكلمة لغة التوجيه والإرشاد. كان أول وزير للإرشاد هو ذاك الناطق باسم السلطان. ينزل الى الأحياء والأسواق حاملاً جرساً يقرعه ليجمع الناس. يبلغهم «فرمانات» الدولة، ووجوب الامتثال لها، ثم يدعوهم الى الدعاء للسلطان بالنصر وطول العمر.

مع بدايات عصر التنوير والثورات البورجوازية، ظهر منافس خطير لـ «وزير الإرشاد» السلطاني. استغل الخطيب السياسي سحر الكلمة. الخطابة فن إعلامي قديم. كان خطباء الإغريق يضعون حصاة في الفم، ثم يخرجون الى البحر ليتدربوا على الخطابة أمام صخب الأمواج (الجماهيرية).

عند العرب، «خير الكلام ما قل ودل». فـ«البلاغة الإيجاز». العرب قوم سحرتهم الكلمة والفصاحة. لعل الحجاج بن يوسف الثقفي أحد أخطب خطباء العرب. كان لسانه يضاهي سيفه. كان العراق كعب أخيل الدولة الأموية. يخاطب الحجاج أهل العراق: «يا أهل الشقاق والنفاق، إنّي والله لأحزمنّكم حزمَ السَلَمَة (رزمة العصي) ولأضربنكم ضرب مواجع الإبل...» الحسرة اليوم تملأ القلب والنفس. ما زال في العراق الحبيب أهل وأبناء عمومة للشقاق والنفاق!

بلغ تأثير الخطابة السياسية ذروته في القرن العشرين مع تقدم الإعلام الإلكتروني. كان لينين خطيبا مُفـَوَّهاً. لكن هتلر كان أخطب خطباء القرن، وربما التاريخ كله. يخطب النقَّاش النمسوي الآتي من خنادق الحرب العالمية الأولى. تصيبه الرجفة. يهتز. يعرق. ينفعل. بسحر الكلمة الخادعة، أيقظ هتلر حلم الوحدة الجرماني. ساق عشرات الملايين بالفاشية كالقطعان إلى خنادق الحرب العالمية الثانية.

أصاب بريق الكلمة الفاشية العرب بالعدوى. صافح لاعب الكرة بيار الجميل هتلر في دورة برلين الأولمبية عام 1936. مسته كهرباء الرجفة. طلق الكرة واحترف السياسة. عاد بيار الى لبنان ليؤسس حزب «الكتائب اللبنانية». ثمة صحافي أكثر ثقافة من لاعب الكرة استعار آيديولوجية هتلر «القومية الاجتماعية»، «فأبدع» حزباً فاشياً آخر (الحزب السوري القومي الاجتماعي). كان المصري أحمد حسين أذكى من الجميل وأنطون سعادة. أسس حزباً فاشياً (مصر الفتاة) وأخفى فاشيته وميليشياه متستراً بوطنيته المصرية.

لست بحاجة الى التوسع في الحديث عن الفاشية العربية. فقد تحدثت عن الأحزاب الثلاثة مراراً وتكراراً هنا في «الشرق الأوسط» وفي مطبوعات أخرى على مدى العشرين عاماً الماضية. قيل لي إن كتاباً صدر في مصر منذ مدة بقلم أكاديمي مصري عن الموضوع ذاته. لا أدري ما إذا كان المؤلف قد نوّه في كتابه بالسابق الى الحديث، أم أنه «اكتشف» وحده علاقة الوصل والربط.

عندي كلام كثير عن فن الكلمة السياسية العربية لا مجال لسرده كله هنا. أكتفي بالقول إن لبنان كان مغارة الخطباء. وكان أفصحهم وأخطبهم ساسة ورجال دين مسيحيون. أين منهم «فشكلة» كلام ساسة لبنان اليوم الذين لا يجيدون لغة أمتهم؟!

لكن أخطب العرب في القرن العشرين اثنان: سعد زغلول وعبد الرحمن الشهبندر. قال لي الراحل فتحي رضوان أول «وزير إرشاد» لدى عبد الناصر: «لقد استمعت الى الاثنين. صاحبكم الشامي كان أخطب من خطيبنا المصري». بهر الشهبندر الطبقة المثقفة المصرية عندما راح يحاضر في منتديات قاهرة العشرينات والثلاثينات عن العروبة والاشتراكية والماركسية. كان كل ذلك جديداً على وعي المثقفين المصريين، ومتقدماً على فكر سعد زغلول المتوفى في عام 1927.

من حسن حظ أعداء العروبة أن عفلق والبيطار لم يكونا خطيبين أو محدثين بارعين. كنت أجلس في دمشق وباريس طويلاً الى البيطار. لم يكن الرجل أحياناً كثيرة ينبس بكلمة. خرج عبد الناصر بالخطابة من فصحاها. كان أول زعيم عربي يستغل الإعلام الإلكتروني (المذياع / المايكروفون) الذي لم يكن متاحاً لزغلول والشهبندر.

لست أبالغ إذا قلت إن شعبية عبد الناصر تركزت في تأثير كلمته الإلكترونية ولهجته المصرية المحببة ودعوته القومية. ثم ما لبثت الخطابة الشعبوية (الإثارة العاطفية) أن توارت أمام لغة إعلامية أكثر هدوءاً، حتى لدى عبد الناصر الستينات عندما نضجت تجربته، وبعدما تكسرت النصال على النصال في الجسد المثخن بالجراح.

مع إفلاس الماركسية كنظام سياسي، أفلست لغة الآيديولوجيا الخشبية. تراجعت الناصرية. لم يبق من بعث العراق وسورية سوى هيكل عظمي. فقد ابتلعته الطائفة والعشيرة والعائلة وعبادة الشخصية. لكن ما زالت لغة الخمسينات التنظيرية سائدة في الإعلام السوري، وفي خطاب بشار وتصريحاته السياسية المطولة.

كنت أخال أن تؤدي أسلمة السياسة الى تهذيب اللغة الإعلامية، وتحصينها بأخلاقية دينية. حدث العكس. اقرأ واسمع الخطاب السياسي الديني. خمسة آلاف موقع في الانترنت لمؤسسات ومنظمات ورجال دين ودعاة ووعاظ. حروب بالكلمات. فتاوى متناقضة. اتهامات متبادلة. سباب بأقذع الشتائم. إرشادات لاستعمال الأسلحة. دروس في التفخيخ بالمتفجرات. حض على التكفير والكراهية وقتل الناس بالجملة.

بعقلية إرضاع الموظفة زميلها في الغرفة، تفكر وتتصرف المؤسسة الدينية التقليدية في حلفها مع الدولة. بهذه العقلية وبرضى الدولة وصمتها، فرضت المرجعية التقليدية رقابتها ووصايتها على لغة الإعلام والأدب. تمنع. تحرم. تحلل، فيما كتب وتسجيلات اجتهاد القرون الوسطى وتفسيره المتزمت البعيد عن منطق العصر تباع في كل زاوية ومكتبة بلا رقابة. بعد ذلك تشكو الدولة من هيمنة «الإسلام الجهادي» على العقل الاجتماعي.

إسفاف العمل السياسي أدى إلى ابتذال لغة الإعلام. سقطت مصداقية الكلمة. تدهور مستوى التحليل. اقرأ صحف المعارضة المصرية. اسمع تصريحات الساسة والناطقين الرسميين في العراق ولبنان وفلسطين. لكل منهم روايته، ولرفضه وتجاهله الرأي الآخر.

في هذا الصخب الفارغ، يستحيل التوصل إلى التسوية. يستحيل عليك أن تستخلص الحقيقة من أشداق الساسة ورجال الدين السنة والشيعة في العراق، ومن التراشق الإعلامي في لبنان، ثم من عشرات الناطقين باسم فتح وحماس.

أضرب مثالا واحدا. دفعت حماس بـ31 ألف موظف «حماسي» الى التظاهر في الشارع مطالبين بمرتباتهم. يبدو الطلب محقا. لكن هل كانت السلطة التي تئن تحت نير الاحتلال والحصار والديون، وتعيش عالة على المنح الدولية والعربية، بحاجة إلى 31 ألف موظف جديد، بينهم 23 ألف رجل أمن لحراسة حكومة حماس، إضافة إلى 150 ألف موظف «فتحاوي» بينهم ما لا يقل عن سبعين ألف رجل أمن لحراسة سلطة عباس؟

تسخير الإعلام لمجافاة الحقيقة والواقع لا يقتصر على الساسة والدولة. المواطن العادي أيضاً يشارك. قال المتقاعد الفلسطيني جميل العشّا: «العربي في العالم الغربي يُداس، ولا أحد يسأل عنه». إذا كان ذلك صحيحا، فلماذا أرسلت ابنك الطبيب بلحيته الشاردة وهوسه الديني الواضح في صوره وهيئته الى العمل في «بلاد الكفار»؟ أعيش في الغرب وأعمل منذ أكثر من ثلاثين سنة. نعم، هناك تعصب. لكنْ، هناك عدل. لا أدين ولا أتهم سلفاً. لكن المحروس نجلك في عهدة قضاء عادل لا تسيره الدولة، قضاء يستجلي الحقيقة في بلد يعمل في مستشفياته العامة تسعون ألف طبيب عربي وأجنبي ومسلم إلى جانب 150 ألف طبيب بريطاني. العرب لا يداسون بالأقدام في الغرب. إنها الحقيقة التي نشوهها وندوسها بالأقدام في الشرق.