تحديث العقلية العربية الإسلامية.. ضرورة ملحة

TT

كثيراً ما تعرض أركون في مؤلفاته ومقابلاته لموضوع الحداثة، سواء داخل الفكر الأوروبي، أو الفكر العربي الإسلامي. وكان دائماً يقيم تمييزاً بين التحقيب الزمني لتاريخ الفكر في كلتا الجهتين. فنحن عندما كنا حداثيين أو عقلانيين إبان العصر الذهبي للحضارة العباسية والأندلسية، كانت أوروبا تغطّ في نوم عميق: أي في ظلمات العصور الوسطى. وعندما استيقظت أوروبا في القرن الثاني عشر وترجمت علوم العرب وفلسفتهم وأخذت تنهض، ابتدأنا نحن نجمد ونتوقف عن العطاء الحضاري. وبالتالي، فالتقسيم الأوروبي لتاريخ الفكر لا ينطبق علينا نحن. فهم يقسمونه إلى ثلاثة عصور أساسية هي: العصور القديمة اليونانية ـ الرومانية، فالعصور الوسطى، فالعصور الحديثة. والأولى انتهت عملياً في القرن الخامس للميلاد، وأما الثانية فاستمرت حوالي ألف سنة، أي حتى القرن الخامس عشر للميلاد، في حين أن الثالثة لا تزال مستمرة منذ عصر النهضة، وحتى يومنا هذا.

ولو طبقنا هذا التقسيم الزمني علينا لرميت كل مرحلة الإبداع الحضاري من تاريخنا في ظلمات العصور الوسطى، وذلك لأن حضارتنا أشعَّت على العالم طيلة القرون الهجرية الستة الأولى، أي بين القرنين السابع والثاني عشر الميلادي. وهي فترة العصور الوسطى والظلامية العقلية بالنسبة لأوروبا المسيحية.

هكذا نلاحظ أنه ينبغي عدم تطبيق التقسيم الأوروبي على الحضارات الأخرى بشكل ميكانيكي. لكن يبقى صحيحاً القول إن الحداثة الأوروبية تجاوزت بإنجازاتها العلمية والفلسفية والتكنولوجية إنجازات كل الحضارات السابقة بما فيها الحضارة العربية الإسلامية. فطب ابن سينا لم يعد طبنا، وكيمياء جابر بن حيان لم تعد الكيمياء الحديثة، وقل الأمر ذاته عن الفيزياء، وعلم الفلك، والبصريات، وغير ذلك.. هناك سنوات ضوئية تفصل بين العلم الحديث وعلم أرسطو أو العلم العربي الذي تلاه. فما حصل من تقدم طيلة الأربعة قرون الماضية في أوروبا، شيء يتجاوز الخيال. والفلسفة العربية الإسلامية، أي فلسفة الفارابي وابن سينا وابن باجة وابن رشد.. لم تعد هي فلسفة كانط أو هيغل أو ماركس..

لكن أركون يفرق أيضاً بين نوعين من الحداثة: الحداثة المادية، والحداثة العقلية. والأولى تعني تحديث الوجود اليومي للبشر على صعيد الأكل والشرب واللباس والمسكن وتنظيم المدن والشوارع.. إلخ. وأما الثانية، فتعني تحديث الفكر نفسه، أي تحديث العقليات ونظرتنا إلى العالم والشعوب الأخرى. لكن هذا التمييز لا يعني الفصل بين الجانبين، على الأقل في ما يخص التجربة الأوروبية للحداثة. فهناك حصل تساوق بين التحديث المادي للوجود البشري وبين الحداثة الفكرية. وعلى هذا النحو جاءت الحداثة الأوروبية مكتملة أو متكاملة: أي تمشي على عكازين لا عكاز واحد. فالتقدم كان على الصعيد المادي والفكري في آن معاً.

أما عندنا وبالأخص في المجتمعات البترولية المحافظة، فقد حصل تناقض صارخ بين الحداثة المادية والحداثة الفكرية. فقد استطاعوا إدخال أحدث الآلات والمخترعات التكنولوجية إليها بفضل السيولة المالية. لكن في ذات الوقت، حصلت مقاومة شديدة للتحديث الفكري، وبخاصة في ما يتعلق بالدين وتقييم الماضي. ونحن الآن ندفع ثمن هذه الحداثة المبتورة، أي التي تمشي على عكاز واحد. ولو أن التحديث شمل كلا الجانبين الفكري والمادي، لما شهدنا كل هذا الانفجار الرهيب للحركات الأصولية المتزمتة. وبالتالي، فتحديث العقلية العربية الإسلامية أصبح ضرورة ملحة الآن، بل ولا يقل أهمية عن تحديث الزراعة أو الصناعة أو قطاع الخدمات والمشافي وغير ذلك من جوانب الحياة اليومية.

لقد حصل عندنا نوع من انفصام الشخصية أو الشيزوفرينيا، نتيجة إدخال السيارات والطائرات والآلات وإبقاء العقلية القديمة على حالها. وهكذا أصبحت حياتنا اليومية مليئة بمظاهر الحداثة المادية، لكن عقليتنا تنتمي إلى العصور الغابرة!. وأكبر خطأ وقعنا فيه هو أننا اعتقدنا بإمكانية استيراد التكنولوجيا والسيطرة عليها دون أن نجري أي تغيير على تراثنا الفكري. والواقع أن التكنولوجيا الغربية لا يمكن فصلها عن العقلية التي أنتجتها. وهي عقلية علمية وفلسفية وليست لاهوتية أو محافظة. فأوروبا عندما كانت أصولية مسيحية طيلة ألف سنة لم تستطع أن تنتج العلم والفلسفة والمخترعات التكنولوجية. ولو لم تنفصل عن العقلية المتزمتة لظلت متخلفة. والشيء الذي حصل بعد الاستقلال والذي ندفع ثمنه الآن، هو أن التيار المحافظ انتصر بشكل أو بآخر. وفرض إرادته ومنع إدخال الحداثة الفلسفية إلى ساحة الفكر الإسلامي. وهكذا ظلوا يدرّسون الدين في المدارس والجامعات كما كانوا يفعلون في العصور الوسطى! لقد أرادوا تحديث كل شيء ما عدا الفكر الديني. والآن نعود إلى نقطة الصفر من جديد لكي نواجه أكبر مشكلة في تاريخنا الحديث بعد أن أجبرتنا الحركات الأصولية على ذلك. فالعالم كله أصبح يركز أنظاره علينا ويطالبنا بالتحديث والتجديد وتغيير برامج التعليم. فنحن ورثة تراث عريق وكبير هو التراث العربي الإسلامي. لكن ماذا فعلنا له؟ هل خدمناه بالدراسة العلمية والمنهجية كما فعل مفكرو أوروبا مع تراثهم المسيحي؟ هل جددناه حقاً ونفضنا غبار الأزمنة المتطاولة عنه؟ هل حاولنا التوفيق بينه وبين الحداثة العلمية والفلسفية كما فعل ابن رشد في وقته؟ أبداً لا. لقد اكتفينا بتحنيطه وتبخيره وتبجيله.

وبالتالي، فأول شيء ينبغي أن نفعله للخروج من المأزق هو تأسيس مراكز للبحوث والترجمة في شتى أنحاء العالم العربي بمشرقه ومغربه. فالمكتبة العربية لا تزال فقيرة في المراجع الفكرية الموثوقة. لا توجد عندنا كتب عن تاريخ الأديان مثلاً، أو عن علم الاجتماع الديني، أو عن النظرة إلى الدين من زاوية تاريخية محضة. توجد عندنا فقط النظرة التبجيلية أو التواكلية التسليمية الموروثة أباً عن جد منذ مئات السنين. وهذه لم تعد كافية. إنما ينبغي أن نضيف إليها النظرة العقلانية. وإلا فلا يمكن أن نصبح حداثيين فعلاً. وهذا لا يعني التخلي عن ديننا وتراثنا العظيم. أبداً، أبداً. إنما يعني فهمه بطريقة أخرى والنظرة إليه بعيون جديدة. إنها تعني عقلَنته أو اكتشاف العناصر العقلانية فيه وتنميتها وتطويرها والبناء عليها.

فالواقع أن الخط العقلاني طمِس في تراثنا بعد موت ابن رشد، أو قل انحسر وتضاءل. وسيطر علينا طيلة عصور الانحطاط، التيار التقليدي والتكراري الاجتراري الذي يرفض الإبداع بحجة أنه بدعة خطرة على العقيدة!

هناك طريقة أخرى للخروج من المأزق التاريخي الذي يواجهنا حالياً. فبالإضافة إلى ترجمة أمهات الكتب الأوروبية، يمكننا تأسيس كليات جديدة لتدريس تاريخ الأديان المقارن مثلاً. وهكذا تتوضح الأمور عن طريق المقارنة بين عدة تراثات دينية لا تراث واحد. وعندئذ نصبح أكثر انفتاحاً وتسامحاً بعد اطلاعنا على تراثات أخرى غير تراثنا الذي تربينا عليه منذ نعومة أظفارنا. وهكذا نثبت أنه يوجد فهم آخر للدين ورسالته السامية غير الفهم المتزمت أو المتطرف الذي يسيطر على قطاعات واسعة من مجتمعاتنا العربية والإسلامية. فالمعاهد التقليدية وكليات الشريعة لا ينبغي أن تحتكر بعد الآن تعليم الدين. إنما ينبغي أن تنافسها عليه كليات حديثة ككلية الفلسفة وعلم التاريخ وعلم الاجتماع، بل وحتى علم النفس.

كل المناهج العلمية وكل المصطلحات الحديثة ينبغي أن تستخدم لدراسة تراثنا العظيم المتراكم منذ أربعة عشر قرناً كما يفعل أركون في كتبه وأبحاثه. كلها ينبغي أن تُطبق عليه لإضاءته من الداخل بشكل لم يسبق له مثيل من قبل. وعندئذ نفهم معنيي التراث والحداثة؛ معنى الأصالة ومعنى المعاصرة. وأما قبل ذلك، فلا. عندئذ نضيء التراث عن طريق الحداثة، والحداثة عن طريق التراث.

هذه هي المعركة الفكرية التي تنتظرنا في السنوات القادمة، والتي يتوقف على نجاحها أو فشلها مصيرنا ومستقبلنا. لكن بشائر الفكر الجديد ابتدأت تظهر في الأفق والحمد لله. وأصبحنا نسمع عن مصادرة هذا الكتاب أو ذاك من قبل التقليديين. وهذا ليس شيئاً سلبياً بحد ذاته، إنما دلالة على صحة الفكر العربي وعافيته وحيويته. فالواقع أن التقدم لن يحصل إلا بعد مناوشات ومصادمات عديدة بين الفكر القديم والفكر الجديد. وقد سمعنا أخيراً بمصادرة كتاب «الخطاب والتأويل» للمفكر المصري المشهور نصر حامد أبو زيد. لكن المؤسف هو أن الشخص الذي طالب «الأزهر» بمصادرته كان محسوباً على المجددين حتى أمد قريب في ساحة الفكر الإسلامي. إنه الأستاذ محمد عمارة، الذي طالما حقق كتب التراث القيّمة ومن بينها كتب ابن رشد رائد التيار العقلاني في الفكر العربي الإسلامي. أقول ذلك وأمامي على الطاولة كتاب «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال» بتحقيقه الممتاز. فيا ليت الاستاذ عمارة استفاد من سماحة فكر ابن رشد واتساع منظوره ولم يمارس الرقابة على كتب المجددين الذين يمشون على خطى فيلسوف الإسلام الكبير نفسه.