فلسطين ليست ملكاً لأبو مازن أو هنية

TT

ليس هناك عربي يعتز بوطنيته وقوميته لا يشعر بالجزع والخوف على الأوضاع الفلسطينية التي وصلت اليها بسبب أخطاء كثيرة فادحة يمكن لمن لا يريد الخير لهذه الأمة استغلالها والعمل على تعميقها. وفي نظرتنا الى هذه الأوضاع التي تمسنا جميعاً كأمة واحدة رغم اختلاف الدول والشعوب، نجد أن المستهدف في النهاية ليس فلسطين وحدها، ولا العراق وحده، ولا السودان وحده، ولا لبنان وحده، بل الجميع بغرض تقسيمهم وإضعافهم. ولذلك فإني أعجب لإحياء معارك حول تناقض مزعوم بين الوطنية والقومية، وأعجب لانحياز فريق ضد آخر من الإخوة المتصارعين سواء كان صراعهم نتيجة أطماع مثل الأطماع التي تؤدي براكب سفينة أن يغرقها تخلصاً من ركاب آخرين، أو نتيجة تحريض يستسلم له البعض تصوراً انه يمكن ارتفاع بناء على أشلاء إخوة لهم، مع أن المصير واحد وانتصار الشقيق على الشقيق وهم نتيجته صفر للجميع.

ولذلك فإني لا أرى حلا لأية مشكلة عربية إلا بالحوار، ليس الحوار الشكلي الذي لا ينتهي بصفاء النفوس، بل الحوار العميق الجاد الذي يرسم خطا مستقيما نحو تحقيق مصلحة الجميع. وفي هذا الصدد ـ القضية الفلسطينية ـ أعيد التركيز على القرار المتوازن الذي أصدره وزراء الخارجية العرب في اجتماعهم الأخير حين شكلوا لجنة لتقصي الحقائق هي في النهاية رغم المسمى لجنة للحوار بين الأشقاء ـ حواراً موضوعياً لا يستهدف إلقاء اللوم على طرف أو آخر بل العودة إلى شرعية تسود فوق كل الأطماع والأوهام، وهي التي تتمثل في الدستور الذي يحدد أسلوب ونظام الحكم.

وقد أدهشني أن اقرأ تصريحاً للأخ العزيز أبو مازن رئيس السلطة الفلسطينية جاء فيه: إنه لا مفاوضات مع حماس إلا بعد عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الانقلاب. وبصرف النظر عن الاستخدام غير الدقيق لكلمة الانقلاب، وعن تحديد من قام من بانقلاب ضد الآخر، إذا كان قد حدث انقلاب بالفعل، فإن الأوضاع التي كانت سائدة هي وجود رئيس للسلطة الفلسطينية منتخب من الشعب، ومجلس تشريعي منتخب ايضاً من الشعب انبثقت عنه حكومة وحدة وطنية ذات برنامج محدد وواضح.

والواقع أيضا أن خبراء الدستور ـ بل من ساهموا في صياغته وهم الأقدر بالتالي على سبر أغواره، وتوضيح مقاصده، أكدوا أنه بينما من حق رئيس السلطة إقالة الحكومة، فان الحكومة المقالة تظل في الحكم مؤقتا إلى حين إقرار المجلس التشريعي لتشكيل الحكومة الجديدة. كما أنهم أكدوا انه ليس في الدستور ما يتيح لرئيس السلطة أن يوقف العمل ببعض أحكامه. وكل هذا يؤكد أن الأوضاع سواء في الضفة أو القطاع غير مستقيمة دستورياً وهو أمر يجب معالجته في أسرع وقت حتى تتوقف محاولات اسرائيل لتعميقه وزيادته حدة.

وقد ذكرت قي مقال سابق أن الضرورة النابعة من اعتقال اسرائيل لعدد من أعضاء المجلس التشريعي لمنع توفر النصاب القانوني لاجتماعه، أمر يمكن ايجاد مخرج له بوسيلة أو بأخرى يمكن أن يعكف عليها القانونيون اذا حسنت النوايا. أما استمرار الأوضاع الحالية فهي تتيح لإسرائيل الفرصة لاستمرار عدوانها، وللمضي في محاولاتها التي تستهدف زيادة تعقيد الأمور. فهل من المعقول أن تقرر إسرائيل ـ وتقبل السلطة الفلسطينية ـ ان يتم الافراج عن عدد ضئيل من الفلسطينيين مع ايضاح أنهم ينتمون لفصيل معين دون الآخرين؟ وهل من المعقول أن تعيد إسرائيل الأموال المملوكة للفلسطينيين والتي احتجزتها بطريقة غير قانونية، فتستخدم لدفع رواتب الموظفين في الضفة وحدها، ويحرم منها الموظفون الذين استمروا في أداء أعمالهم بالقطاع وهم يقومون بخدمة عامة لصالح الشعب بصرف النظر عن الانتماءات الحزبية أو الآيديولوجية؟ وهل من المعقول أن نسمع مطالبات بإيفاد قوات دولية إلى غزة أو القطاع دون ان يكون واضحاً أن الهدف منها ليس نصرة فصيل على آخر، بل اقتراناً بعمليات انسحاب اسرائيل ووقف اعتداءاتها وجرائمها كجزء من التمهيد لتسوية؟

وهل يعقل ان يمنع الفلسطينيون من العودة الى بلادهم مما يشكل مشكلة إنسانية لهم إضافة إلى ما يشكله من مشكلة أمنية وسياسية لمصر؟ كل هذه أوضاع تشكل جزءاً من عملية محاولة زيادة الهوة بين الفلسطينيين، وتؤكد ضرورة سرعة استئناف الحوار الذي دعا إليه الرئيس حسني مبارك وتسعى الأجهزة المصرية لتفعيله. إن فلسطين ليست ملكاً لأبو مازن أو لهنية او غيرهما من الزعماء أو مدعي الزعامة، ولكنها ملك للشعب الفلسطيني كله، وللأمة العربية كلها التي من حقها بل من واجبها أن تقف أمام هذا العبث وتعلن بوضوح موقفاً حازماً يضع حداً لصراع لا تفيد منه إلا إسرائيل ومن يساندونها، ويتعرض بسببه المواطن الفلسطيني لأشكال من العنت والاضطهاد أغلبها من جانب الأعداء ولكن بعضها من جانب الأشقاء الذين لا يتجاوزن حبهم لأنفسهم وتمسكهم بسياسات غير مبررة، إلى الحرص الذي كان يميز بعضهم للعمل على مصالح الوطن والشعب. ولست أدري كيف يستطيع البعض ان يفرقوا بين الوطن والشعب فيتصورون انهم يعملون لصالح الوطن بالإسهام في تعريض جزء من شعبه لحصار ظالم.

إننا نفهم ونتوقع من اسرائيل الجرائم البشعة، والسعي الدائب لزيادة الهوة عن طريق الوقيعة والتفرقة في المعاملة، خاصة وأن الرئيس بوش ـ الذي يدمر العراق ـ يضرب بإسرائيل المثل في مقاومة العنف مع الحفاظ على نظام ديمقراطي.

ولقد كان يمكن للرئيس الأمريكي أن يختار مثالاً آخر لدول تعرضت للعنف والإرهاب، واستطاعت أن تحاربهما بأسلوب قد يكون فيه تجاوزات ولكنها في النهاية محدودة حتى إذا كانت غير مقبولة، ولكن أن يضرب المثل بالدولة التي لا تكف عن ارتكاب الجرائم البشعة من دون مراعاة لأي قانون وأية اعتبارات إنسانية فهو أمر كان عليه أن يتجنبه خاصة وأن سياساته في العراق يزداد رفضها من جانب الشعب الأمريكي الذي لا أعتقد انه يود أن يأخذ المثل من إسرائيل رغم جهود اللوبي الصهيوني الذي يصل نفوذه الى أبعاد كثيرة ولكني لا أعتقد أنها تصل إلى حد الإعجاب بعمليات إجرامية.

ويبدو أن الرئيس الأمريكي الذي كان يريد أن يجعل من العراق مثالاً للديموقراطية فجعله مثالاً للفوضى والمعاناة لشعب فقد زمام أمره، مصر على أن يجعل من العراق من الآن تلميذاً نجيباً لإسرائيل. وقد قرأت هذا الاسبوع في «النيويورك تايمز» تقريراً لسفير الولايات المتحدة في العراق يصف فيه ورطة واشنطن في العراق بسبب الرئيس بوش وعصابة اليمينيين المتعصبين فيقول: إنه بينما ستتحمل الولايات المتحدة ثمناً مرتفعاً لبقائها في العراق، مع تزايد سقوط الضحايا الأمريكيين وارتفاع التكاليف التي بلغت حتى الآن 500 ألف مليون دولار، فإن ثمن الانسحاب يمكن أن يكون مرتفعاً أيضاً». وأضاف السفير إن تجربته سفيرا في لبنان علمته أنك عندما تفكر في المستقبل فانك كثيرا ما تفتقد القدرة على التصور، فلم يكن يستطيع أن يتنبأ بالعنف الذي وقع في 1982 بما في ذلك قتل مئات الفلسطينيين في صبرا وشاتيلا وتفجير السفارة الأمريكية ومعسكرات مشاة البحرية. ولست أريد أن أعلق على هذا الكلام سوى بأنه يعبر عن الورطة التي وضعت واشنطن نفسها فيها، ووضعت الشعب العراقي الذي غزت بلاده بحجة تخليصه من حكم كارثي فأوقعته في أتون من نار تأكل اليابس والأخضر ولا يبدو أن من أشعلها يعرف كيف يطفئها وقد تمتد إلى أماكن أخرى.