لبنان يجترّ أزمته

TT

أفدح الحروب مأسويةً تلك التي يغدو ضحاياها أرقاما صمّاء، ذلك هو العراق الشهيد اليوم. أفدح الأزمات تلك التي تطول وتستعصي على الحل في بلد مأزوم، وهذا هو لبنان الحبيب اليوم.

لبنان يجتر أزمته. بات اللبنانيون يعرفون تماما جوانب أزمتهم. لا جديد إلى الآن. حتى الصحافة اللبنانية تتعامل مع الأزمة وكأنها الحدث الطبيعي العادي وليس الاستثناء الطارئ. كتاب الصحافة هناك يتحدثون بالرموز المشفرة التي يفهمها فقط اللبنانيون. من هنا، لا بد من الكتابة إلى القارئ العربي عن لبنان بين الفينة والأخرى، للتعريف بتطورات الأزمة المستعصية على الفهم العربي.

حمل اللبنانيون كرتهم الملتهبة من مخيم نهر البارد إلى مخيم سان كلو، وهم يعرفون سلفا أن جندي المطافئ الفرنسي الجديد غير قادر على إطفائها. لولا إيران الحريصة على مغازلة فرنسا لإغاظة أميركا، لما أشارت إلى «حزب الله» بالذهاب إلى سان كلو، وابتلاع غلطة اللسان التي نجحت تظاهرة أهالي الجنود الإسرائيليين المخطوفين في انتزاعها من فم ساركوزي في قصر الإليزيه. عاد الإليزيه، فاعتذر عن إدانة الحزب بـ«الإرهاب». وقال إنه يعتبره لاعبا سياسيا له دوره ورأيه في أزمة لبنان.

كنت أتمنى لو أن الحزب أرسل إلى باريس بعض آباء وأمهات القتلى اللبنانيين الـ1200 الذين طحنتهم الطائرات الإسرائيلية تحت الأنقاض. كنت أتمنى لو أن الحزب أغرق بريد كل نائب في البرلمانات الغربية بصور الدمار المروع والضحايا، ليذكر الغرب بأن إسرائيل أيضا دولة إرهابية.

لكن حَكَواتية الحزب الإعلاميين شاءوا الدق على الصدور في ذكرى حرب الصيف الماضي، مباهين اللبنانيين والعرب بـ«النصر الإلهي». أصبح تقرير لجنة فينوغرادوف الإسرائيلية هو دليل الحزب لتفسير «رموز» النصر. لماذا تستطيع إسرائيل مراجعة الذات وممارسة النقد، ومحاسبة حكومتها وجيشها، ولا يستطيع «حزب الله»؟ لأن النصر «الإلهي» معصوم في «قداسته» عن النقد، تماما كما كانت هزيمة عام 1967 معصومة عن النقد والمراجعة في قاموس بعث سورية على مدى أربعين سنة كاملة.

عندما انتهت الحرب الحدودية برفع حاجز دولي بين الحزب وإسرائيل، كتبت هنا متخوفا أن ينكفئ الحزب بسلاحه «المتعطل» إلى الداخل ليمارس ضغطه على اللعبة السياسية الديمقراطية. حدث ما توقعت. نعم، الحزب لم يستعمل هذا السلاح، بعد، ضد خصومه. لكن هل كان الحزب قادرا على تقويض الحياة الديمقراطية، وشل الحياة الاقتصادية، وتعطيل المؤسسة التشريعية مع حلفائه، بسحب وزرائه من الحكومة، وإهانة مشاعر السنة باحتلال قلب المدينة الذي بناه الحريري، وتطويق قبره، والاعتصام المستمر أمام سراي الحكومة في ساحة رياض الصلح، الساحة الأعز على قلب مسلمي بيروت؟

هل كان الحزب قادرا على أن يفعل كل ذلك لو أنه لم يكن جالسا على 18 ألف صاروخ، ويمتلك عشرين ألف مقاتل؟ هل كان الحزب قادرا على ممارسة هذا التحدي لو لم يعرف أن لا الدولة، ولا الحكومة، ولا الجيش تستطيع مجتمعة سحبه من الشارع الذي يحتل؟

تشفير الحركة السياسية في رموز لا يفهمها غير اللبنانيين تقتضي كشفها للعرب ليدركوا الخطر الذي تشكله الهجمة الإيرانية على المنطقة والنظام العربي: أية حركة باتجاه قصر الحكومة لاحتلاله وقلب السنيورة بالقوة سيؤدي فورا إلى نشوب حرب أهلية في لبنان.

إيران تدرك ذلك، والحزب يعرف أن دويلته الشيعية غير ضامنة للنصر في حرب من هذا النوع، على الرغم من كل السلاح والمقاتلين في حوزته، لسبب جغرافي، وهو أن دويلته موزعة على أرض مجزأة بحواجز جبلية وبشرية يمتلكها خصوم أقوياء متمرسون هم أيضا في القتال. يبقى الاحتمال الوحيد «للإنقاذ» هو تدخل عسكري سوري غير مضمون، لأسباب إقليمية ودولية غير مؤاتية حاليا.

الخطر هنا يتمثل في أن الاقتحام وارد، إذا ما شعرت إيران أن عليها انتظار فرصة إقليمية أو دولية مناسبة للانقضاض على لبنان، وتحقيق نصرها الوحيد على النظام السني في العالم العربي.

أنا من الذين يحترمون سليم الحص، لاستقلاليته ولنزاهته السياسية. لكن أحسب أن تحليله للأزمة اللبنانية ورؤيته لواقع الصراع في المنطقة، ينطويان على أخطاء ترجع إلى مثاليته الرومانسية أولا، وإلى مجاراته الاعتقاد السائد المغرض بأن هذا الصراع هو مجرد صراع أميركي/ إسرائيلي من جهة، وسوري/ إيراني من جهة.

تشفير الرموز في الرؤية الحصيّة يقتضي ضمنا إلصاق النظام العربي بالحلف الأميركي/ الإسرائيلي. هذا الإلغاء للعرب في الصراع آخذه على الرئيس الحص. ليس صحيحا أن النظام العربي يتحالف مع إسرائيل، لمجرد مواجهة إيران وصد هجمتها على المنطقة.

هناك افتراق عربي أميركي واضح. السعودية ومصر ضد قصف إيران. السعودية تقيم اتصالا مباشرا مع إيران. الدولتان ما زالتا تعملان بشيء من التنسيق لكي لا تتجاوز الأزمة اللبنانية حدودها الخطرة حاليا. مصر والسعودية مع الحوار بين عباس وحماس، فيما أميركا وإسرائيل تعملان لتعميق الهوة بين الفلسطينيين، بل أميركا غير راضية عن الحوار الفرنسي مع اللبنانيين.

أمضي في محاولة فك «شيفرة الرموز» اللبنانية، فأقول إن سنة لبنان التي لا تمتلك سلاحا، ولم تخض أصلا الحرب الأهلية، راهنت بشكل وآخر على المخيم الفلسطيني المسلح، في مواجهة احتمال الصدام مع المخيم الشيعي المسلح، إذا ما حاول اقتحام الحكومة أو احتلال بيروت الغربية (السنية). غير أن الغزل السني المفاجئ بالمخيم الفلسطيني فقد نوعا من حرارته. خرجت سنة لبنان من مخيم نهر البارد بحمام فلسطيني «بارد»، سببه انشقاق المخيم الفلسطيني، بين «فتح» عباس الرافضة لتمرد «فتح الإسلام»، والتنظيمات الفلسطينية الأخرى التي انسحبت من «البارد»، تاركة سلاحها وذخيرتها لتنظيم العبسي!

يعني ذلك أيضا أن التنظيمات «الجهادية» الفلسطينية والسنية النائمة والمتحركة، المتحالفة مع سورية أو غيرها، لا يمكن الركون إليها في التحالف ضد «حزب الله» الذي يحتكر، بعد استيعاب «أمل» نبيه بري، تمثيل الشيعة، ولا يسمح بتعددية شيعية. لا يبقى على سنة لبنان والحالة هذه سوى المضي بدعم حلفها الراهن مع المسيحيين والدروز، والاعتماد على النظام العربي الذي أقام جسرا جويا لوجستيا لدعم الجيش اللبناني، في حربه التي يبدو أنها ليست حربا مع عصابة، وإنما مع تنظيمات أقوى وأوسع.

ساعة الحسم تقترب. انتخاب الرئاسة المارونية يفرض على أطراف اللعبة الخطرة الاتفاق على العودة الدستورية إلى البرلمان لانتخاب رئيس جديد في سبتمبر، وإلا أطل لبنان/ الأزمة برئيسين وحكومتين.

هل ينتخب لبنان رئيسا مؤهلا للحكم، أم رئيسا بالتراضي لإدارة الأزمة؟ الجواب صعب وسط متاهة الرموز. المرشحون المدنيون كثر وأقوياء ولهم ناخبون في المنطقة وخارجها. بعض اللبنانيين يتخوف من رئيس عسكري كالعماد ميشال سليمان قائد الجيش المحارب. هذا الضابط العسكري أثبت استقلاليته. حافظ على وحدة الجيش؟ هل يعيد التاريخ نفسه؟ هل يتقمص العماد سليمان دور العماد فؤاد شهاب الذي أنقذ لبنان عام 1958، أم أن لبنان قد تعود اجترار أزمته؟