فقط 2000 دولار!

TT

ابتسامة رقيقة، وتربيت على الكتف، ومبلغ ألفي دولار، هذه هي الجائزة التي قدمها الرئيس الأفغاني حميد كرزاي، للطفل الأفغاني الذي كان مشروعا انتحاريا أصوليا، بعد أن عاد لحياته الطبيعية.

«الحفلة» جرت أمس الاول في كابل، بحضور الطفل «رفيق الله» ذي الأربعة عشر عاما، ومعه والده، الطفل أو المراهق رفيق الله، للتو خط شاربه، وتلقى تعليمه في إحدى المدارس الدينية الباكستانية، على غرار مدرسة المسجد الأحمر الشهيرة، وحشي رأس الطفل بالكراهية الدينية، للدرجة التي أصبح معها جاهزا للانفجار، واختير له الهدف من قبل من حشاه، وهو حاكم إقليم خوست الافغاني.

السلطات الأفغانية اعتقلت الفتى في مايو الماضي في ولاية خوست (شرق) وكان يرتدي سترة ناسفة.

تكلفة قليلة، ووقت وجيز استغرقه تحويل طفل من قنبلة قبح إلى قرنفلة جمال.

ومع خالص الأماني بأن يصمد «رفيق الله» في تحوله هذا، وألا يعود إليه معلمو الكراهية والتحريض من جديد، وهو الصغير الغض العقل، إلا أن السؤال الذي نسأله، خارج نطاق المثال الأفغاني: كم من شاب يمكن استعادته، وكم هي تكلفة هذه الاستعادة، وكم من «رفيق الله» آخر، لم يستقبله كرزاي، أو غيره من أهل الحكم في العالم الإسلامي؟!

شخصيا، اعتقد أن الفتق أو سع من الرتق، والسيل الهادر لا ترده عباءة كرزاي القشيبة، واعتقد أيضا أن مسألة التحريض الديني أعقد من أن تربط بظرفية سياسية أو عسكرية في هذا المكان او ذاك، بمعنى أنه ليس من المقنع ولا من المفيد ان يقال لنا إن تجنيد رفيق الله جاء بسبب «عمالة» كرزاي للأجانب؛ فالحق أنه، ومع إمكانية استخدام هذه الحجة، إلا أن النداء الخفي في قلب كل شاب يعيش هذه الأجواء هو نداء القيام من اجل استئناف الحياة الإسلامية التي لوثها الحكام المرتدون، وتنقية المجتمعات التي غاصت في أوحال الرذيلة، ونشر لواء الفضيلة خفاقا عليها، حتى ولو «حجب» هذا اللواء الخفاق لون السماء ونور الشمس!

الجريمة تتضاعف، والاستغلال الديني السياسي يصبح أبشع، حينما تكون الأدوات البشرية المستخدمة هي فئات لم تصل بعد إلى الرشد والنضج بحيث تختار هي مصيرها عن وعي، مثل الأطفال، وهذا بالضبط ما صنعته «القاعدة» في العراق والسعودية، وغيرهما، وبلغت فيه حركة طالبان الأفغانية الذروة في القباحة، حينما أعطت طفلا أفغانيا في الثانية عشر من عمره، سكينا وقال له رجال طالبان المتحلقون: اذبح هذا الرجل، فهو كافر وجاسوس باكستاني، فقام الطفل واستل سكينه وذبح الرجل المتوسل من الوريد للوريد وسط تكبير وتهليل رجال طالبان.

الحادثة التي حصلت في نهاية ابريل(نيسان) الماضي، تشير إلى انه كل شيء مستباح في سبيل تحقيق الفكرة الأصولية، والتي هي في غايتها النهائية، إقامة الشرعية الإسلامية المفقودة، وفي الطريق «جهاد» الكفار، ومن يحول بينهم وبين تحقيق هذه الشرعية، من مرتدي المسلمين.

حسنا، لماذا «نكرر» هذه الفكرة دوما ؟!

لأن بعض الصحافيين والكتاب والمثقفين تنعمي عينه بمعادة أمريكا والغرب، ويصبح لديه كل شيء سائغا ومبررا وقابلا للتهوين في سبيل محاربة هذا العدو الذي قالوه لنا، وجعلوه عدونا الأوحد: الغرب.

ولو قيل لهم: إن هذه حركات مدمرة لكل عشبة عقل بقيت في صحراء العرب، لعقدوا حواجبهم نفورا، وزموا شفاههم، وقالوا: ولو! أمريكا وإسرائيل والامبريالية...وهذه مبالغات أمريكية، يصدقها السذج من قومنا، ومن قال لكم إن «القاعدة» فعلت ذلك... الخ هذا الكلام الهزيل.

ومن قبل كان نفر من هؤلاء «النصف مدافعين» عن الإرهاب الأصولي، ينفون أصلا وجود بن لادن، وإن أثبتوا وجوده، نفوا دوره، وان اثبتوا دوره قللوه إلى أدنى حد، كل ذلك من اجل تماسك فكرتهم الأصلية حول واحدية العدو: الغرب. وهذا بلا ريب نوع من العمى المقصود، استمر إلى أن أحاطت النار المتعصبة بنا من كل جانب، بعد أن لبثنا فترة طويلة ونحن نكابر ونغالط ونقول كلاما لا يسمن ولا يغني من جوع.

قبل سنوات قريبة، وما زال الأمر لدى البعض، كان اذا كتب أحد حول وجوب إجراء نقد للثقافة الدينية السائدة التي تفرخ أسراب الإرهابيين أو «المتعصبين» والفئة الأخيرة ضررها أكثر غموضا والتباسا من فئة الارهابيين، وهذا حديث طويل ومحزن، كان اذا كتب احد حول وجود مشكلة فكرية لدى الخطاب الديني والاجتماعي السائد، يوصم فورا بالأمركة أو بالعمالة لإسرائيل أو بالانبهار بالغرب... وأخيرا، وحسب آخر موضة لدى متعصبين سعوديين، بالليبرالية! مع أن الليبرالية بحد ذاتها لا يمكن أن تكون شتيمة إلا إذا صار مفهوم الحرية ذاته رذيلة وخطيئة!

وتحويل الليبرالية إلى لفظة من ألفاظ الشتائم العامة، يذكرني بطرفة ذكرها المؤرخ اليمني احمد الشامي في كتابه «رياح التغيير في اليمن» حين تحدث عن انتقام الإمام احمد يحيى حميد الدين من حركة ابن الوزير، التي قامت تحت عنوان الدستور، حيث أصبح العامة في صنعاء وصعدة إذا أرادوا شتم احد قالوا له : يا دستوري!

لكن وبعد مرور هذه السنوات وبروز حقيقة المشكلة الفكرية في الخطاب الديني السائد، أصبح من العبث المكابرة والمغالطة، وأمسى الحديث عن وجوب إصلاح هذا الفكر بشكل جريء أمرا لا تطير فيه الرقاب ولا تحرق فيه الصورة والسمعة، وان كانت لا تخلو من الرشق بحجارة مجهولة من هنا وهناك.

وكان اذا قيل انه يجب الوقوف بقوة أمام مصادر التعصب الديني سواء في التعليم او لجان الدعوة والإرشاد او في محتويات النشرات الدينية التي توزع مجانا، كان ذلك كله يوصف بالهجوم على الاسلام نفسه، ويتم حرق الصورة بشكل منهجي، في خطب الجمعة او مناسبات الظهور لمتحدثي وخطباء التيار الديني الإعلامية، وما أكثرها، حتى يحاصر المتلقي العامي بهذه الصورة المحروقة ولا يمكنه إلا ان يشم شياط الحريق!

لكن الآن ترى في الصحافة السعودية من يتحدث عن وجود مشكلة خاصة بشباب السعودية بعد إسهاماتهم «الطيبة» في بلاوي العالم من النهر البارد في لبنان إلى الأنهار الساخنة في العراق، ولم يعد ذلك حديثا محرما، وفي صحيفة سعودية واحدة نشر مقالان نقديان بهذا المعنى.

وحتى جهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يعد حمى محرما، بل أصبح قابلا للنقد والتوجيه، باعتباره جهازا «من» أجهزة الدولة، لا يوجد استثناء له.

كل هذه التحولات تشي بأن المجتمع السعودي، ورغم كل النقد الموجه له، إلا أنه مجتمع حي ومتحرك، باعتبار النقد هو سر الديمومة لأي مجتمع، وهو المجداف الذي يحرك المياه تحت سفينة المجتمع حتى لا تأسن.

وفي الاخير فإن فتح النوافذ للتحليل والنقد هو أجدى واقل تكلفة من تخصيص ملايين الريالات في الصرف على لجان المناصحة لموقوفي «القاعدة» او بناء سجون جديدة، فليس أمثل ولا أجدى من النقد والحوار الصريح، وليس «الطبطبة على الأكتاف» او توجيه بضع نصائح دينية ليست غريبة على المنصوح.

أقول هذا وأنا أدرك، كما اخبرني احد العارفين الثقات، بأن لجان المناصحة في السعودية اختزلت ببعض المساجلات الإعلامية التي اشتهر بها شخص او شخصان في الإعلام، في حين أن فكرة لجان المناصحة أعمق واشمل من أن تقدم بما قدمها به هذان الشخصان.

فهي، حسب كلام محدثي، فكرة خلاقة وفيها أكثر من لجنة، وبها مختصون نفسيون واجتماعيون، ناهز عددهم المائة، ولهم برامج متنوعة، وسيضم إليها أساتذة علم سياسة، فلماذا تقزم صورتها بمساجلات إعلامية ومعارك فكرية لواحد أو اثنين من أعضائها ؟!

صفوة القول: لا بد من الدفاع في الخط الأول عن الاعتدال، وليس إذا كسرت الجرة وتغلغل المرض. خير لنا أن نصحح المناخ العام، من ان نخصص البرامج المكلفة بعد أن يقع الشاب في القبضة، حتى ولو حظي باستقبال رئاسي مثل استقبال كرزاي للطفل رفيق لله.

وأظن أن مبلغ الألفي دولار الذي قبضه رفيق الله من الرئيس كان سيكون أجدى لو صرف على مدرسة القرية التي يدرس فيها في إقليم وزيرستان من أجل تعليمه كيف يفكر ويقارن وينتقد وينفتح على العالم ... كان سيكون أجدى وأوفر.. وأشرف.

[email protected]