غوردون براون.. وتحديات الإرهاب

TT

قليلون هم رؤساء الوزارات الغربيون ممن شهدوا بداية لعهدهم في المنصب أكثر دراماتيكية من بداية غوردن براون. فبعد أيام من تسلم براون منصب رئيس الوزراء من توني بلير، جرى تذكيره بأن التحدي الإرهابي الذي واجه حكومة العمال السابقة لم يختف، وانه خطر ومفاجئ كما هو الحال دائما. فقد اكتشفت سيارتان مفخختان في لندن كان لهما ان تقتلا المئات لو انهما انفجرتا، تبعهما بعد يوم محاولة تفجير انتحاري استثنائي عبر اصطدام سيارة جيب مليئة بالمتفجرات في مطار غلاسكو.

وبالنسبة لمعظم البريطانيين كان رد الفعل المباشر على رؤية صور المرسيدس المحملة بالمتفجرات خارج ناد ليلي في لندن: «ها نحن نواجه الأمر مرة أخرى». وسرعان ما اعقب ذلك تعبير عن شعور بالارتياح لأن القنبلة لم تنفجر. وأنقذ توخي الحذر من قبل طاقم سيارة اسعاف شخصت السيارة المشتبه بها النادي الليلي، وأكد المعلقون الأهمية الدائمة للحذر من جانب الناس العاديين وحراس الأمن الخاصين. ولكن الأحداث جرت بعدئذ على نحو سريع. فقد وجدت الشرطة هواتف محمولة أرشدتهم الى الشبكة الارهابية. ثم اكتشفوا ما صدم الجميع. فقد كان جميع الأشخاص المتورطين في الخطة تقريبا أطباء في مؤسسة الصحة القومية في بريطانيا.

وكان الناس متشككين. وتساءلت الصحف: كيف يمكن لأطباء يتعهدون بإنقاذ الحياة أن يخططوا لقتل وتشويه عدد كبير من الناس؟ وكيف أفلحت «القاعدة» في تجنيد هذا العدد الكبير من «العاملين السريين» غير المعروفين للشرطة والاستخبارات في بريطانيا؟ بل ان مسلمي بريطانيا البالغ عددهم 1.8 مليون شخص مصدومون بصورة اكبر. فقد كانت الأنباء ضربة مزدوجة، حيث المسلمون يوجه اليهم اللوم مرة أخرى على أعمال ارهابية، تهدف الى قتل نساء ورجال ابرياء، ومن ناحية ثانية فإن المتورطين هم من الأطباء. وبالنسبة للمسلمين كانت الاكتشافات الرائدة للأطباء المسلمين الأوائل في القرنين العاشر والحادي عشر مصدر فخر. وربما كان الطب مدينا للاسلام اكثر من أي دين أو فلسفة اخرى، وان معظم الاكتشافات وحالات التقدم في القرون التسعة الماضية، قامت على كتابات وكتب ألفت في العصر الذهبي للاسلام. وتبدو خطة الأطباء في بريطانيا معدة قصدا لتشويه ذلك الارث.

كما كانت الأنباء مقلقة الى حد كبير بالنسبة للكثير من الأطباء الأجانب في بريطانيا. فمن بين 277 الف طبيب مسجل في بريطانيا، هناك 128 ألف طبيب ممن درسوا وتدربوا في الخارج. وهناك آلاف من الشرق الأوسط، وما يقرب من 1985 من العراق وحده. وجاء كثيرون من الهند وهناك ما يقرب من 27 ألف طبيب هندي يعملون حاليا في بريطانيا بينهم كثير من المسلمين. وأعلنت الحكومة في الحال انها ستدقق في كل طلبات العمل في مجال الطب وفي مهن اخرى مثل الهندسة على نحو أكثر دقة في المستقبل.

ولكن ثقة الناس هي الضحية الأولى للخطة. فالأطباء الهنود والأجانب جميعهم يقولون انهم قلقون من أن البريطانيين العاديين قد ينظرون اليهم الآن بعين الشك، وهذا سيزيد من التوترات المتطرفة. وقد اصدرت جمعيات مختلفة لأطباء اجانب بيانات أدانت فيها الارهاب بشدة. كما دعت منظمات اسلامية في بريطانيا، تخشى من ادانتها على عدم قيامها بما يكفي لإيقاف التطرف، كل المسلمين للتعاون مع الشرطة والإبلاغ عن اية شكوك بشأن جهاديين متطرفين في أوساطهم.

وهذا كله تحد كبير بالنسبة لبراون. انه يريد أن يميز نفسه بالافتراق عن عهد بلير، ويريد بشكل خاص ان يبعد الحكومة عن الفشل في العراق. ولكنه لا يستطيع تجنب الارث. وهو يعرف ان عليه أن يظهر نفسه قويا مثل بلير في مواجهة الارهاب. ولهذا اكد في تصريحاته التلفزيونية الأولى على أن بريطانيا لن تخضع للتهديد.

مع ذلك، هناك فوارق واضحة أصبح ممكنا رؤيتها بين إجابات بلير وبراون. فبعد هجمات 7 يوليو 2005 على قطارات الانفاق في لندن، أعلن بلير مباشرة سلسلة من الإجراءات تهدف إلى فرض إجراءات مشددة ضد الأئمة الأجانب وفرض السيطرة على المساجد المتطرفة وإعطاء الشرطة سلطات أكبر لاحتجاز المشتبه بهم ومحاكمة أولئك الذين يمجدون الإرهاب. وشعر الكثير من المسلمين أنهم مهددون بهذه المقاربة، التي رأوا أنها ستزيد من الشك في المسلمين. وعلى عكس ذلك بدا براون أكثر براعة واتزانا. فهو لم يتكلم بشكل متعمد عن التطرف «المسلم»، بل حول تطرف «القاعدة». وشدد على الحاجة إلى الحوار مع قادة المسلمين. وترك هذا الأمر للزعماء الدينيين الذين يمثلون كل الديانات وللمسلمين العاديين في بريطانيا أن يعبروا عن استيائهم تجاه مخطط الأطباء.

والنتيجة، هي أن الكثير من المسلمين شعروا بالراحة مع المقاربة الجديدة. وهذا تم دعمه بعدد من الإجراءات التي اتخذها براون والتي لا علاقة لها بالإرهاب، لكنها تهدف إلى تأكيد أن الحكومة لا تريد التحكم في حياة الأفراد. فهو أعلن عن مجموعة من التعديلات الدستورية من ضمنها إعطاء البرلمان الحق في اتخاذ قرار الحرب (وهي نتيجة واضحة للغضب الذي تشكل نتيجة قرار خوض الحرب ضد العراق)، مع دليل وزاري جديد للتصرف وتسليم المسؤولية لكنيسة إنجلترا لتعيين أساقفتها (وهي إشارة إلى أن بريطانيا متعددة الديانات) كما جاءت الدعوة لجلسات استماع علنية في البرلمان فيما يتعلق بالتعيينات في المناصب المهمة.

وكل ذلك لإظهار أن براون هو ليس «شخصا مستبدا» مثلما كان يقال عن بلير. وكل ذلك جاء في وقت مطلوب من الحكومة البريطانية أن تضاعف من جهودها في محاربة الإرهاب، لكن هذه الإجراءات ستقلص من القلق الشعبي حول تقلص الحريات المدنية في بريطانيا التي كانت نتيجة لسياسات بلير.

تعامل الكثير من البريطانيين مع الأحداث بشكل هادئ، إذ لم يقتل في نهاية الأمر أي شخص. وبدأ الممثلون الهزليون والطلبة والصحف في غلاسكو بتوزيع نكات تتمتع بدعابة سوداء تظهر أن المدينة جاهزة للاستهزاء بالإرهابيين وتمتلك ردا مرنا وقويا عليهم، أما الآن فإنها أصبحت معتادة على التهديدات الإرهابية. وهذا ربما أفضل رد حسبما ذكر الكثير من المعلقين. الإرهابيون لن ينجحوا إذا رفضت الأمة أن تسمح لنفسها بأن تُرهب.

* صحافي بجريدة «التايمز» البريطانية مختص بشؤون الجماعات الإسلامية خاص بـ «الشرق الأوسط»