شهداء اللغة العربية

TT

من يطوف العالم يجد العالم مليئا بالأجانب الذين حاولوا تعلم اللغة العربية وأودت بهم. كان منهم أستاذي دونالد كوكسن الذي خدم جنديا في الجيش البريطاني في مصر وأوحى له ذلك بأن يتعلم اللغة العربية مع زميله البروفسور هملي. ولكن بعد بضعة اشهر قتل زميله هذا خلال الحرب. وشعر كوكسن شعورا عميقا بأن ما قتل زميله لم يكن رصاص الألمان وإنما دروس اللغة العربية. فأسرع الى التخلي عن المحاولة وترك اللغة العربية وشأنها حفظا على حياته وسلامته.

حيثما أسير بين أوساط المثقفين البريطانيين التقي بمن حاول تعلم العربية ثم تخلى عن المحاولة. وهذا شيء مفهوم. فلم نلوم هؤلاء القوم ونحن أبناؤها لا نستطيع أن نجيدها؟ يعلم الله كم غلطة نحوية سأرتكب قبل ان انتهي من هذه المقالة، وهو ما ارتكبه ويرتكبه كل واحد منا خلال حياته اليومية في كلامه مع أصحابه وأسرته، وطبعا في أي شيء قد يكتبه.

خطر لي كل ذلك وأنا اقرأ كتاب سي.جي. كامبل «حكايات من القبائل العربية». الذي نشرته دار «كيغن بول» من لندن بطبعة أنيقة ومزينة برسوم تخطيطية ظريفة. يعلم الله كم عانى هذا المؤلف وهو يستمع الى هذه الحكايات يسردها على أسماعه ابناء عشائر الجنوب العراقي ومنطقة الأهوار. اقول ذلك وأنا اتذكر كيف عانيت شخصيا من محاولة فهمي لكلام ابناء هذه العشائر.

عبر المؤلف عن معاناته في مقدمة الكتاب حيث ذكر فقال: «أريد أن أقول لأولئك الذين يريدون الاستمتاع بجمال لغة دقيقة، ان ذلك ما يمكن ان يحصلوا عليه في النصوص العربية الكلاسيكية. ولكنني أحذرهم بأن اللغة العربية هي قمة إفرست اللغات. لا يقوى على اقتحامها المكتشف المتهاون العازم على قضاء سنة أو نحو سنة من الدراسة. ربما يتوفق المرء العازم على الاكتشاف بعد سبع سنوات من الجد الجهيد للوصول الى اول خط الثلج ولكن القمم الثلجية المتجمدة ستبقى شاخصة نائية فوق رأسه بكل جمالها الفاتن، وكما بقيت شامخة لما يزيد على الألفي سنة. علما بأن سفوح هذه القمم ليست يسيرة لأقدام أي احد لم يولد بهذه اللغة. وكل ذلك على نحو ما قال ابن الدحام: «لا تتصور ان تصبح شاعرا مثلنا فرغم ما ينبت على الدجاجة من الريش فإنها لا تستطيع ان تطير!».

«يا عيني على الأستاذ كامبل! أستطيع أن أتصور المعاناة والصعوبات التي واجهته في محاولة فهم ما يرويه له ابناء المعدان في جنوب العراق. ولكنه بدو شك جهد مشكور. وكالعادة علينا نحن الكسالى المساكين ان نرجع الى اللغة الانجليزية في هذا الكتاب الفريد لنستطيع ان نلم بالتراث الشفوي لشعبنا وكل ما يجري من متعة الكلام والقوم ملتفين حول نيران الحطب في الشتاء القارس أو حول شواء السمك المسقوف في ليالي الصيف الهنية.