فلسطين.. نظرات وعبرات

TT

كنت قد عزمت على الابتعاد هذا الأسبوع عن الحديث عن القضية الفلسطينية حتى لا يندفع القلم حزناً ـ بل قرفاً ـ إلى إصدار أحكام قاسية على أشقاء وقفنا دائماً معهم في الدفاع عن قضيتهم العادلة ظناً منا أنها عزيزة عليهم بقدر ما هي عزيزة علينا. ولكني لا أستطيع أن أسكت على ما يجري أمامنا من انفتاح لمزالق الغواية وتصور البعض أنهم قادرون على تجنبها مع أنهم يقتربون كل يوم منها. فما زال هدف إسرائيل ثابتاً لم يتغير وهو القضاء على القضية الفلسطينية، وإيرادها موارد الفناء عن طريق الوقيعة والتقسيم والفرقة والتدمير والقتل المادي والمعنوي.

وإذا كنا في حاجة إلى أمثلة فهي كثيرة، والى أدلة فهي ظاهرة للعيان. وأحياناً حين أحسن الظن بإخوة طالما وقفنا معاً في محافل كثيرة ندافع عن القضية التي هي قضيتنا جميعا، أقول لنفسي لعلهم أيضا يناورون اقتناعاً منهم بأنهم قادرون على الخروج من المأزق الذي تدفعهم إسرائيل وأصدقاؤها إليه، ولكني أعود وأسأل نفسي حزيناً مشفقاً وغاضباً: ألم يتعلموا أو يتعظوا من الدروس التي تتساقط كالسياط على ظهورهم؟ ولا أريد أن أستطرد في هذا الحديث الحزين ولكني أريد ـ بعد أن فشلت في الابتعاد عن الموضوع ـ أن أصل إلى الوقائع والأحداث لعلها أصدق وأوضح تعبيراً من المشاعر والانطباعات، وتأكيداً لحقيقة هدف كل التحركات الإسرائيلية وهو زيادة الفرقة والوقيعة.

لا أريد أن أعود إلى موضوع الانتخابات الفلسطينية التي لم تعجب نتائجها البعض حين جاءت على غير ما تصوروا وخططوا، فكان فرض فوري لحصار على الشعب الفلسطيني كله لكي ينقلب على نتائج «الديمقراطية» التي يدعي أصدقاء إسرائيل أنها هدفهم ومناهم. واستطاع الفلسطينيون لفترة أن يصمدوا أمام الآلام والمعاناة، ووحدوا صفوفهم في حكومة وحدة وطنية وتوصلوا إلى صياغة توفيقية تسمح بالتفاوض من أجل التوصل إلى تسوية تحقق السلام والأمن للجميع بإتاحة الفرصة للشعب الفلسطيني لكي يقيم دولته المستقلة على الأرض التي احتلت في 1967، ثم بعد ذلك وفي إطار هذه الدولة – تحل مشاكل الخلاف بين مختلف الفصائل التي لا يصح أن تتصارع على كعكة ليست في حوزتهم. ولكن هذا لم يرض إسرائيل وأصدقاءها فاستمرت الوقيعة والغواية، ودفع الأطراف الفلسطينية عن طريقها إلى صراع لم يكن هذا بالقطع أوانه.

ولست أريد أن أكرر الكثير مما هو معروف عما جرى في تلك المرحلة والأخطاء التي توالت على الجانب الفلسطيني وانتهت إلى الأزمة الحالية التي تعمل إسرائيل على تعميقها عن طريق زيادة الفرقة، فهي تطلق سراح بعض من آلاف المعتقلين لديها وتختارهم وتعلن أنهم منتمون إلى فتح وبعض المنظمات الأخرى ليس منها حماس، وهي ترد بعض الأموال الفلسطينية المحتجزة من دون أي سند من قانون أو شرعية على أن تستخدم في سداد مرتبات الموظفين بالضفة، ويحرم منها من واصلوا أعمالهم في القطاع حتى تستمر الأوضاع المضطربة فيه إنسانيا وعملياً، وهي في كل ذلك تؤكد أن هدفها هو دعم طرف فلسطيني ضد طرف آخر، ثم يلتقي أولمرت أبو مازن، ويكال له المديح الذي لا يستهدف إلا الإحراج وزيادة هوة الخلافات، وفي نفس الوقت تعلم إسرائيل أنها ترفض التفاوض حول الانسحاب أو القدس أو اللاجئين أو أي موضوع سياسي وتستمر في أعمالها العدوانية. كل ذلك بهدف خلط كل الأوراق، ومن مثيله أيضا الإعلان عن السماح لنايف حواتمة وفاروق قدومي بالعودة المؤقتة إلى الضفة باعتبار ذلك دعماً لأبو مازن. والسؤال هو دعمه في مواجهة من، إذ أن المطلوب هو دعم الموقف الفلسطيني عامة في مواجهة إسرائيل وليس اللجوء إلى مناورات مشكوك في حقيقة أهدافها الخبيثة.

ويدخل في ذلك في تقديري الخاص الفيديو الخاص بالإعداد لما يسمى مؤامرة اغتيال أبو مازن، وقد قيل إن احد المشاركين فيها هو الذي تاب وأناب وسلم الفيلم إلى فتح. وهذا الأمر يثير بعض التساؤلات التي يصعب تجنبها. فهل يعقل أن من يحفرون نفقا لتفجير موكب رئيس السلطة الفلسطينية ـ وهي بالضرورة عملية سرية ـ يقفون أمام الكاميرا حاملين لافتة تحمل اسم حماس، وهم يبتسمون أمام الكاميرا ولا يحاولون إخفاء وجوههم؟ ثم ما الذي يثبت الهدف من حفر النفق؟ أنا لا أريد أن أقطع برأي، ولكن الأمر يستحق التدقيق فيه، خاصة أنه لا يبدو أن وسائل الإعلام في الغرب قد أولت هذا الموضوع الاهتمام الذي لو كان حقيقياً لاستحقه منها ولو من الناحية المهنية البحتة. وأنا لا أريد أن اقطع برأي ولا أدافع عن احد، فموقفي من آيديولوجية حماس معروف لا أخفيه، ولكني فقط أقول كما قال قديماً حكيم روماني: «إني صديق قيصر ولكني أكثر صداقة للحقيقة»، ولست أريد أن ننساق وراء قصص «الأنفاق» المتعددة الأهداف المزعومة، خاصة إذا كانت في الحقيقة فخاخاً تنصبها إسرائيل أو غيرها لأهداف يسهل التعرف عليها.

وبينما كل ذلك يجري وينساق البعض وراءه، فإذا بالموقف الأمريكي يشهد تغييراً، بل انقلابا يثير الدهشة، فيعلن الرئيس بوش الذي يكره العمل الجماعي دعوة إلى مؤتمر دولي حول القضية الفلسطينية، والمثير للدهشة هنا أمران: أولهما أن واشنطن كانت تعارض فكرة عقد مؤتمر دولي مكتفية «بالجهود» التي تقوم بها هي وتعاونها فيه «الرباعية الدولية» بالتشاور مع ما سمي بالرباعية العربية. أما الأمر الثاني فهو أن المؤتمر المقترح لم يخرج في الواقع فيما أعلن عنه حتى الآن عن الرباعية والدول العربية التي لها علاقات بإسرائيل، ثم إسرائيل نفسها والسلطة الفلسطينية، أي أن الفكرة لا تحوي جديداً في شكلها وان اختلف الاسم، كما أن الهدف هو إقامة الدولتين وهو الهدف الذي أعلنه الرئيس الأمريكي منذ سنوات ولكنه لم يتخذ في الواقع أي خطوة عملية تساعد على الوصول إليه.

وفي ضوء ذلك ـ إلى أن تتضح أمور ما زالت تخفى علينا ـ فان من الصعب أن يؤخذ الاقتراح الأمريكي بجدية على انه تطور ايجابي حقيقي، بل هو اقرب إلى مناورة جديدة تنضم إلى مناورات أخرى سبقتها من دون أن يكون لها مضمون حقيقي. وإزاء ذلك فإني أعتقد أن الدور العربي يجب أن يستمر في التركيز على التمسك بالمبادرة العربية، وفي نفس الوقت استمرار الجهود التي تبذل، وأعرف أنها لم تتوقف من جانب كل من يهمه أمر الفلسطينيين من دون تفرقة بين فصيل أو آخر أو الانحياز السياسي لطرف أو آخر مهما كانت المواقف الفكرية أو الآيديولوجية، فالموضوع يتعلق بالشعب الفلسطيني في مجموعه، وبالأمن القومي العربي، والأمن الوطني لكل دولة عربية قربت أو بعدت جغرافياً. وهذا هو الأسلوب الوحيد الذي لا يغيب عنه الهدف الذي نصبوا إليه جميعاً والذي يتجاوز المناورات والمؤامرات والأهداف الصغيرة التي تحاول أن تطفئ نور الشمس حتى يتوه الطريق في ظلام سوف يلف الجميع إذا لم يستمعوا إلى نصائح الأصدقاء الحقيقيين وليس من يلبسون مسوح الحملان وهم ذئاب، ويظهرون نوايا حسنة مزعومة وهم يخفون أسوأ النوايا. وهي أمور لم يكن من المفروض أن نعود للحديث عنها لولا أن البعض ينسون أو يتناسون، وتلهيهم مناورات تكررت مئات المرات وانخدع بها البعض في كل مرة، وكأن الذاكرة قد غابت، والوعي قد أصابه المرض، والجحر ينادي أن سارعوا لتلدغوا مرات ومرات.

هذه ـ مرة أخرى ـ دعوة إلى أن نركز على ما هو أساسي ولا نندفع إلى طرق فرعية تورد التائهين موارد الهلاك.

والأساسي هو توحيد الصفوف، وقد يكون هذا أمرا صعباً بعد ما حدث ولكنه ضروري لأن الأخطار تتزايد، والعواصف التي تتجمع في الأفق أعتى من العواصف التي هبت وتهب. ولا أريد أن أقول أن هذه الفرصة الأخيرة، فالشعوب قادرة دائماً على أن تخلق فرصاً جديدة، ولكني أقول إن ما يحدث في فلسطين وفي العراق وفي لبنان وفي السودان وفي الصومال والغيوم التي تحوم حول دول شقيقة أخرى يجب أن يفتح أعين الجميع إلى أوضاع ـ لا شك أن بعضها نتيجة مؤامرات ولكن الكثير منها بالقطع نتيجة ضياع البوصلة من البعض ووقوعهم في أخطاء كان يجب ويمكن تجنبها ولم يفت في تقديري الوقت لتصحيحها.