الصحفي و«الشحات»: أول دراسة جادة في إعلام ما بعد 11 سبتمبر

TT

لا توجد دراسات جادة لإعلام بلدان اتفاقية جامعة الامم الناطقة بالعربية (الاسم الاصلي قبل ان يحذف القومجيون، دون اذن الشعوب، «اتفاقية» و«الامم» و«الناطقة»)، تتناول دراسة موضوعية لظاهرة انتشار الفضائيات بما لا يتناسب اقتصاديا، او معرفيا، او اثنوجرافيا، مع واقع معظم البلدان.

فهناك حكومات تتركز محادثاتها مع «الغرب الاستعماري الصليبي» على استجداء معونات اقتصادية لإطعام شعوبها، لكنها تنفق الملايين على فضائيات متعددة اللغات.

تناولت بعض الدراسات الغربية الظاهرة، لكن نتائجها تثير الشكوك في موضوعيتها لتناقضها مع خبرتنا الصحفية العملية، كما ان اصحاب الفضائيات كانوا مصدر تمويل كثير منها، فبالغ الباحثون في ترقية المستوى الحرفي للفضائيات (البعض قارنها بالـ«بي بي سي») بمنطق محتال يبيع الترام لمزارع باع محصوله وصل لتوه من الصعيد، بمحفظته المنتفخة، الى محطة الاسكندرية، ليقنعه ان الترام سيوصله الى لندن اسرع من الطائرة الكونكورد.

كتاب «حرب كلمات (غير) متمدينة: الاعلام والسياسة في العالم العربي» وهي ترجمة المضمون لا الحرفية لـ (un)civil war of words Media and politics in the Arab World للمفكر الاكاديمي الامريكي، المصري المولد، الدكتور مأمون فندي، عن دار غرينوود، هو اول دراسة جادة للاعلام العربي ما بعد 11 سبتمبر.

المعنى الساخر اختبرناه في اسلوب فندي بنزوله من البرج العاجي لينافسنا في شارع الصحافة، وهو ما نرحب به لابتكاره صورا ديناميكية من الحياة اليومية ليبسط لغير المتخصص السياسة المعقدة، مثل «العجلاتي» الثورجي الدائر على غير هدى، فالوقوف يعني سقوطه.

الحرب الاهلية بالإنجليزية : Civil war وإضافة فندي حرف النفي «غير» (un) ينزع مفهوم التمدين عن حرب الاعلاميين العرب. الانجليزية تستخدم Civil لوصف المتحضر المدرك للأتيكيت الراقي ابتداء من تناول الطعام في المطاعم الفاخرة، الى الدخول في مناظرات تنتصر فيها الفكرة او تهزم، بأسلوب مهذب بلا زعيق، في جدل يفيد المشارك Civil dialogue .

افتقار حرب الكلام لأتيكيت الحوار، خيط مستمر continuous theme في كتاب فندي بأمثلة لـ«ردح» الفضائيات «للخصم»، ككوميديا نجيب الريحاني وشرفنطح وماري منيب في الافلام المصرية في الثلاثينات، في مشهد انعطاف «الشوفير» بسيارة الافندي او البيه المحترم، خطأ الى حارة النشالين والغواني سليطات الالسن فيقطعن مباراة «الردح» بينهن ليوجهن وابل الاهانات الى «البيه» المنتمي لحضارة Civil scene غريبة على ثقافة «الردح» والسباب.

يصحبنا كتاب فندي عبر السنوات، بالوثائق والأرقام، بدءا من تطور الحرب على الارهاب بمراحلها، ليلقي بالضوء على ميدان حرب مواز، عبر الفضائيات العابرة للقارات، وكيف تتبادل «الجزيرة» و«العربية» و«ابوظبي»، و«السودانية» و«اليمنية» و«العالم» و«المنار»، وغيرها، القذائف الكلامية، او احيانا تتفق على تحويلها نحو «البيه» الذي دخل الحارة خطأ.

فللمرة الاولى في التاريخ تتوفر للمشاهد (القادر على ثمن الديش) خيارات هائلة عبر «الريموت كونترول» تفوق خيارات اغنى المليونيرات من الاطباق المتاحة في مطعم «مكسيم»، لكن يبقى السؤال: هل يوفر تعدد هذه الشبكات للمشاهد اخبارا مفيدة، بالمعنى الحرفي الناضج لنشرات الاخبار، كما هو حال الـ«بي بي سي» و«سكاي» مثلا؟

ام انها مجرد اسلحة جديدة للحكومات والزعماء، ومصادر التمويل، لخوض الحرب على «كسب القلوب والعقول» او «تمزيق القلوب وتدمير العقول؟».

بل ان هناك، حسب ادلة وإحصائيات كتاب «الحرب (غير) المتمدينة» ما يشير احيانا الى اختراق الشبكات الارهابية، كالقاعدة وغيرها، لغرف اخبار بعض الفضائيات وتحويل برامجها ذات الشعبية الواسعة الى جهاز بروباجندا لترويج شرائط وأفكار وآيديولوجية الارهابيين، اما عن قصد، او لعدم حرفية القائمين عليها.

في عشرين صفحة (المقدمة) رسم فندي صورا «سياديناميكية» تبسط في ذهن القارئ تعقيدات السياسات العربية، مما ذكرني بأسلوب واحد من اعظم كتاب السخرية في النصف الثاني من القرن العشرين، استاذنا الكبير محمود السعدني، شفاه الله من المرض المزمن، خاصة في ربط فندي لحرب كلام الاعلام العربي بمصادر التمويل.

فقبل اربعين عاما كتب صحفي ريبورتاجا مثيرا عن التسول، مع صورته متنكرا في زي «شحات» في محطة باب الحديد، لكن اثبتت السنوات التالية افتقاره للموهبة والحرفة والأمانة الصحفية، فاختفى ليظهر فجأة في نهاية السبعينات «ناشرا» لصحيفة قومجية يمولها نظام «ثورجي» مهمتها سب مصر، بسبب قيادتها تيار السلام بدلا من الحرب.

ولتذكير الاستاذ السعدني وقتها بهويته اخبرته انه الصحفي «اللي كان عامل شحات» وبفلسفته الساخرة، رد الاستاذ السعدني قائلا «ابدا، يا واد، دا شحات وعامل صحفي».

الدكتور فندي في مقدمة الكتاب، يوظف فلسفة السعدني الساخرة، ليس لمجرد رسم الابتسامة على شفتي القارئ، وانما لضرورات ثقافجتماعية socio-cultural وانثروبولوجية كي ينبه قارئ الانجليزية لسوء الفهم الناجم عن الاختلافات الثقافية. فغالبا ما ينبهر الزملاء الاوروبيون بما يرونه «جرأة» بعض الفضائيات في «كسر تابوهات ( محرمات)» المجتمعات العربية، وفاتهم ان برامج الصراخ وتصارع التيارات المتعاكسة، قشرة تخفي عجز كثير من الشبكات، التي تفتقر للمواهب الصحفية، عن تقديم فقرات اخبارية بمستوى الـ «بي بي سي». شبه فندي المؤسسات بـ«واضع اليد» على الممتلكات العامة لتطويعها لأجندته الخاصة. عامل نظافة في احدى صالات مطار القاهرة «وضع اليد» على مدخل المرحاض، ليقدم ورق التواليت والمناشف الورقية فيضطر المسافر الى دفع بقشيش مقابل خدمة هي اصلا مجانية. او منادي سيارات «وضع يده» على الشارع العام، ليحصل على بقشيش/ اتاوة بإيهام سائق السيارة انه دون توجيهاته بكلمات «خش.. خش.. كمان.. كمان ...حاسسسسسب... شد فرملة اليد» لن يتمكن من ركن السيارة.

فالفضائيات وضعت يدها على الاثير المفتوح في فضاء الله لتطويعه، مقابل فرض الاتاوة / البقشيش على مصدر التمويل بإقناعه انها تمكنه من «ركن سيارته الايديولوجية» في شارع اسمه اذهان المشاهدين.

نفقات الاعلام العربي، حسب دراسة فندي، تتجاوز 15 مليار دولار سنويا، بينما لا يزيد دخلها، بما فيه الاعلان، عن 1.5% من الميزانية، فمن الذي يدفع فارق الـ 12.5 مليار ؟ ومقابل ماذا؟ .

ولانه لا يمكن ان يوجد إعلام حر مستقل خارج نظام حرية السوق الكاملة، مما يجبر الصحفيين على حرفية راقية ونشرات اخبار تصمد للمنافسة وتعتمد على عدد المشاهدين او التوزيع، وبالتالي تجذب المعلن او المشترك، فإن هذه الفضائيات تدخل معارك «الردح» او الحرب الكلامية لحساب الممول.

يشبّه الدكتور فندي الممول بـ«الكفيل»sponsor الذي بلا كفالته لا يتمكن العامل المهاجر (الغريب)، وغالبا لا يفهم لغة البلد، من دخول سوق العمل. فبدون الكفيل الذي ينفق بسخاء ـ يبلغ السفه احيانا ـ على الفضائيات، ما كانت لتتمكن من دخول سوق الإعلام أصلا.

قراءة كتاب الدكتور فندي الجديد، الصادر في 176 صفحة، ضرورية للمهتمين بالإعلام، وللساسة والديبلوماسيين المنشغلين بمكافحة ظاهرة تغلغل ثقافة الارهاب والموت ومعاداة الآخر، بدلا من ثقافة التنمية والتطور وتثقيف الناس.