«القطيعة».. لصالح سركوزي أم ضده؟

TT

رغم أن الوقت لا يزال مبكرا لإصدار أحكام بعد مرور أقل من ثلاثة أشهر فقط على حكم الرئيس الفرنسي الجديد، إلا أن الوعود التي قطعها على نفسه أثناء حملته الأخيرة بإحداث «القطيعة» أو La rupture وتغيير الأوضاع بدت وكأنها تتحقق على أرض الواقع.

احتفالات الرابع عشر من يوليو (تموز) الأخيرة كانت مناسبة جيدة أظهرت للملأ اختلاف أسلوب الرئيس الجديد عن ما عرف عن سابقيه. الاحتفال اشتمل، خلافا للعادة، على عروض عسكرية للدول الأوروبية الصديقة كرمز قوي على دور سركوزي الجديد في التعجيل بإنهاء بناء الصّرح الأوروبي. كما أن تقليد الخطاب الرئاسي الخاص بهذه المناسبة والذي كان قائماً منذ عهد الرئيس ميتران اختفى، وبالمقابل رأى الفرنسيون رئيسا في قمة الحيوية والنشاط ، لا يكتفي بالظهور في الاستعراض العسكري أو خلف المنصة كما كان يفعل سابقوه، بل وينزل للاختلاط بالجماهير ومصافحتهم بحرارة. كما اكتشفوه مرحاً، خفيف الظل وهو يطلق العنان للضحكات والمزحات مع ضيوفه في حفلة «الغاردن بارتي» الخاصة، في سابقة لم تعهدها فرنسا من قبل عن رئيس جمهورية.

على عكس ميتران وشيراك اللذين كانا يؤمنان أن قوة الزعماء في صمتهم وغموضهم، فإن تكثيف الضربات الإعلامية، التصريحات والتركيز على الاتصال والتحرك ثم التحرك تبدو القاعدة الذهبية لسركوزي من أجل استمالة الفرنسيين وكسب رضاهم. وجود الرئيس الدائم والملحوظ في الميدان واعتماده على سياسة اتصال فعالة وعصرية جعلته ينجح إلى غاية الآن في تمرير سياسته بسهولة. بهذه الطريقة تم تمرير قوانين لم يكن لها أن تمر في ظروف أخرى كقرار إعفاء أصحاب الثروات الكبيرة من الضرائب التي كانت مفروضة عليهم منذ عقود والمعروفة في فرنسا بـ ISF وهو القانون الذي صودق عليه بسهولة شديدة وسط غياب المعارضة السياسية والشعبية التي كانت متوقعة.

القطيعة جاءت أيضاً مع بداية ظهور دور سياسي جديد ربما كان سركوزي هو من أراده لزوجته سيسيليا، الأمر الذي أثار كثيرا من التساؤلات، بعد أن فاجأت هذه الأخيرة الجميع بزيارتها الخاطفة إلى ليبيا للتفاوض في إطار قضية الممرضات البلغاريات وأكثر من كونه مؤشرا قويا على نهاية عهد سيدة الإيليزيه القابعة في نشاطاتها الخيرية، فإن الأمر أصبح موضوع جدال عنيف حول دور السيدة الأولى في هذه القضية السياسية وما جدوى وجود وزارة للخارجية؟

الرئيس سركوزي يختلف عن سابقيه في كل شيء، حتى في تعامله مع معارضيه وهو أكثر من دفع الحدود إلى أبعدها، حين قرر فتح أبواب الحكومة لأطياف سياسية مختلفة من المجتمع المدني ومن المعارضة تحت شعار «الوحدة الوطنية». المبادرة قوية ولم يسبق أن أنجزها زعماء سابقون بهذه الصورة. لا ميتران الذي تعاون مع شخصيات من الوسط سنة 1988 ولا حتى جيسكار ديستان الذي فتح أبواب الحكومة لبعض اليساريين في حقبة السبعينيات.

خطوة سركوزي الشجاعة أثارت كثيراً من الاستحسان لا سّيما حين سمح لشخصيات متّحدرة من الهجرة بالمشاركة في الحكومة وجعل سيدتين من أصول مغاربية تحتلان منصبين وزاريين مهمين، وهو ما لم يجرؤ عليه اليسار نفسه الذي طالما تغنى بكونه أكثر التيارات السياسية انفتاحا على الأقليات العرقية. لكن السؤال الذي قد يتبادر إلى الأذهان هو: إلى أي حدّ قد يستفيد سركوزي من سياسة القطيعة التي يتبناها؟ فدعوة الرئيس اليميني لشخصيات مهمة من اليسار من أجل المشاركة في الحكومة، كمناورة سياسية ذكية لإضعاف المعارضة وكسر شوكتها عن طريق زرع الفرقة والانقسام عملاً بالقاعدة السياسية المعروفة والتي توصي الحاكم بأن «يفرق لكي يسّد»، لا تخلو من الخطورة على سركوزي نفسه وقد ينقلب عليه الأمر، تماماً كما ينقلب السحر على الساحر. والحقيقة أن الرجل بدأ يواجه تذمر بعض المقربين الذين أخلصوا له طيلة الحملة الانتخابية، آملين في حقائب وزارية، أو مناصب مهمة ثم وجدوا أنفسهم يخرجون من اللّعبة كما يقول المثل «من المولد بلا حمص» وقد أغضبهم كثيراً أن يمنح الرئيس ستة مناصب وزارية من أصل خمسة عشر لشخصيات من اليسار والوسط. كما أن إفراغ الحزب الاشتراكي من أفياله كجاك لانغ، كوشنر وستروس كان الذين راحوا ينشقون عنه الواحد تلو الآخر لتسلم مناصب رفيعة في أجهزة الدولة، قد تفيد المعارضة أكثر مما تضرها، باعتبار أنها قد تصبح فرصة لظهور تيار جديد من السياسيين الشباب على رأس الحزب، يساهم في تلميع صورته وإضفاء صبغة جديدة من العصرنة والتجديد. وقد بدأت بوادره تلوح فعلاً مع ظهور ما يسمى بحركة «الأسود اليافعة» التي يقودها النائب الشاب أرنو منتوبور والتي تمثل تيار الشباب الصاعد في الحزب اليساري مقارنة بالكهول الذين يلقبون بالفيلة.

بما أن سركوزي لا يفعل نصف الأشياء فهو قرر أيضاً أن يكون «الرئيس الذي يحكم»، مُسجلاً اختلافه مع سابقيه الذين كانوا يكتفون بالإشراف على السياسة الخارجية تاركين رؤساء الحكومات يهتمون بالشؤون الداخلية. الرئيس الجديد الفائض بالحيوية والنشاط يريد أن يكون على جميع الجبهات، مما جعل رئيس حكومته فرانسوا فيون ضعيف النفوذ وأحياناً منمحي تماماً أمام شخصية رئيسه الحاضرة باستمرار. الوضعية تُذكر بأيام حكم الرئيس ديستان الذي كان يتدخل بقوة في صلاحيات رئيس حكومته آنذاك جاك شيراك، مما دفع بهذا الأخير إلى الانسحاب تذمراً من تكبيل حريته، فهل يعيد التاريخ نفسه وينتهي الحال بفيون رئيس حكومة سركوزي إلى التمرد على وضعه؟

يقال ان سركوزي يهتم برفع شعبيته ليمهد الأجواء من أجل تمرير إصلاحاته المهمة والتي قد تجابه مواجهة نقابية وشعبية كبيرة. ولهذا فهو يتحرك على جميع الجبهات ويفكر في كسب العدو قبل الصديق وكلها جهود من أجل حصد النجاحات وتقوية الظهر.

لكن السؤال الأهم يبقى مطروحاً: ألا يكون تفكير سركوزي الشديد في إحداث القطيعة عن طريق انفتاحه الواسع على المعارضة على حساب أصدقائه من الحزب اليميني قد أنساه إمكانية تمرد الأصدقاء الذين قد يحسُون بالظلم؟؟ هل من المعقول أن يفوت على هذا السياسي البارع أن إرضاء الأصدقاء لضمان إخلاصهم قد يكون أهم من إضعاف العدو؟ وأخيراً هل من الممكن أن يكون سركوزي الرئيس النشيط يتحرك لمجرد التحرك وأنه في الواقع يمضي قدما لكن في الاتجاه الخطأ؟.