العقلانية الإيرانية .. غائبة أم مغيبة؟

TT

في إحدى الطرائف المتداولة في الداخل الإيراني أن شخصا سأل الرئيس السابق أكبر هاشمي رفسنجاني عن اسم الطريق السريع ـ قيد الإنشاء ـ الممتد شمال العاصمة طهران وصولاً إلى الحدود، فأجابه: «طريق الشهيد احمدي نجاد»!

هذه النكتة تحمل بين طياتها تكثيفاً سياسياًَ لحقيقة ما آل إليه الخطاب السياسي لحقبة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد والتي بدأت تتخذ مساراً تصاعدياً باتجاه تأزيم علاقتها ليس بالمجتمع الدولي فحسب، بل بكثير من دول الجوار التي لا تخفي مخاوفها الشديدة تجاه سياسة إيران المضطربة وامتداداتها المريبة في المنطقة، ولعل أبرز مؤشرات الأزمة الإيرانية تتمثل في غياب أي رسائل عقلانية ذات مدلول إيجابي يمكن الاتكاء عليها في الممانعة القوية التي تبديها دول الجوار وبالأخص الدول الخليجية في أي عمل عسكري ضد إيران من شأنه أن يفجر الأوضاع في المنطقة وينذر بارتباكات سياسية قد يكون من الصعب السيطرة عليها استناداً إلى التجربة العراقية الدرس سيمثل للعيان ربما لسنوات طويلة.

الرسالة السلبية من إيران جاءت هذه المرة خارجة عن أدنى احترام للأعراف الدبلوماسية أو الحق السيادي حين صرح حسين شريعتمداري مستشار المرشد الأعلى بملكية إيران للجزر الإماراتية ولدولة البحرين التي اعتبرها جزءاً من الأراضي الإيرانية انفصلت عنها ضمن تسوية غير قانونية منذراً باقي الدول باكتساح النموذج الإيراني لكل الأنظمة غير الشرعية من وجهة نظره.

الإشكالية ليست في مثل هذا التصريح الذي يعبر عن وقاحة سياسية فجة لا يمكن تبريرها أو ادعاء أنها تمثل وجهة نظر شخصية كما تحاول أن تصوره بعض الشخصيات السياسية في إيران؛ بل إن المأزق أن يمثل هذا التصريح توجهاً لدى شريحة واسعة من المحافظين في إيران في ظل غياب أو تغييب الأصوات العاقلة في إيران والتي غابت عن المشهد السياسي بعد غيابها عن سدة الحكم، لا سيما أن المتابع للشأن الإيراني يدرك أن شريعتمداري يعد واحداً من أبرز كتاب الافتتاحيات متابعة في الصحافة الإيرانية، بل تذهب ناهيد توسلي رئيسة تحرير مجلة «نافيه» الثقافية وهي من الشخصيات الإصلاحية الناشطة في إيران إلى أن مقالات شريعتمداري هي «الوعاء» الذي يقدم الأفكار التي تدور في أروقة الحكم في إيران، والقضايا التي تشغل صانعي القرار، والقرارات التي قد يتخذونها في هذه القضية أو تلك! كما أن صحيفته تمثل الصوت الإعلامي الداعم لخط الرئيس نجاد المتشدد، لذا فهو دائم الترديد في مقالاته بحتمية الانتصار الإيراني على الهيمنة الغربية ورفض منطق الحوار حتى لا تهتز صورة إيران لدى حلفائها داخل حركات الإسلام السياسي في تركيا والجزائر وفلسطين ولبنان، فأي تنازلات كتلك يمكن أن تهشم الصورة النقية للنضالية الدينية التي تحاول أن تسم إيران طبيعة صراعها السياسي مع الغرب.

في اعتقادي أن مثل هذا التصريح الذي تدل التحركات الدبلوماسية لمتكي وبعض السياسيين الإيرانيين على أنه في طريقه للاحتواء عبر تطمينات وربما اعتذار رسمي تفتح الباب ولا تغلقه على أسئلة أعمق من مجرد تصريح متعصب هنا أو هناك، ربما كان أحد هذه الأسئلة المهمة عن ارتداد السياسة الإيرانية صوب مرحلة تصدير الثورة؟! وهو سؤال يبدو مشروعاً في هذه الآونة ليس بسبب احتدام الصراع بين إيران وسلاحها النووي من جهة، والممانعة الغربية التي تترنح بين خيار الضغط الدبلوماسي وبين التلويح بالحرب بمناسبة وبغير مناسبة.. بل مشروعية السؤال نابعة من غياب أي رسائل إيجابية من إيران لدول الجوار، لا سيما الخليجية، على الرغم من تأكيد هذه الدول، وعلى رأسها المملكة، اللاعب الأول على مستوى القضايا الإقليمية الكبرى، على خيار «الحوار» مع إيران وعدم الاستعجال في أي تصرف متهور يمس سيادة إيران وينذر بعواقب وخيمة للمنطقة؛ مثل هذه الرسائل الإيجابية صدرت أيضاً من دول خليجية أخرى كدولة الإمارات التي قدمت منطق العقل والحكمة في طرحها لمسألة الجزر المحتلة من قبل إيران منذ العام 1971م، مرجحة الحلول السلمية والاحتكام إلى محكمة العدل الدولية من دون أن تتخذ من الأحقية التاريخية والسياسية والقانونية للجزر ورقة ضغط تجاه إيران أمام المجتمع الدولي أو حتى على شكل مقاطعة اقتصادية أو تمييز ضد الجالية الإيرانية، وهو الأمر الذي يؤكد الفارق الضخم بين السياسة كفن محترف للممكن والنسبي، وبين «شعرنة» السياسة عبر خطابات ثورية لا تزيد الأمور إلا تعقيداً.

من جهة أخرى فإن الموقف أيضاً من دول الخليج كان واضحاً في رفض أي فرز سياسي طائفي للمنطقة سواء في العراق أو لبنان مع كل ما يقال عن مشروع الهلال الشيعي والامتدادات الإيرانية، إلا أن الموقف الرسمي لدول الخليج ظل ثابتاً في رفضه للطائفية السياسية وتأكيده على وحدة العراق ولبنان وضرورة احترام مختلف التكوينات الدينية والعرقية والإثنية. وحتى لا أتهم برسم صورة وردية وحالمة فإن رفض الطائفية السياسية على المستوى السياسي الرسمي لا ينفي وجود طروحات طائفية متعددة يتم تداولها داخل العديد من المدارس الفكرية السنية ذات الطابع المتطرف، إلا أنها لم تمثل يوماً وجهة نظر رسمية لأي طرف سياسي، كما أنه من جهة ثانية لها ما يقابلها من حيث الكم والنوع في الاتجاه المعاكس بين أروقة المدارس الإخبارية في الفكر الشيعي، فهذا التوتر العقائدي المتبادل لا يعدو أن يكون سجالاً لاهوتياً يضرب بأطنابه عميقاً في جذور التاريخ الإسلامي كواحد من أزماته ومعضلاته الكبرى.

إن الأزمة الإيرانية الحقيقية تتمثل في غياب العقلانية السياسية أكثر من أحقية المطالبة بسلاح نووي أو الخوف من هيمنة غربية متوهمة؛ فالأزمات الكبرى لأي كيان سياسي تبدأ من الداخل وتكبر مثل كرة الثلج بفعل تجاهلها وعدم الاكتراث بها وترحيلها عبر افتعال أزمات خارجية يتسع معها الخرق على الراقع!

[email protected]