مؤتمر دولي كبير وأهداف أميركية صغيرة

TT

يوم واحد يفصل بين خطاب الرئيس الأميركي جورج بوش الذي دعا فيه إلى مؤتمر دولي لتحريك عملية التسوية السياسية، وبين خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس في افتتاح الاجتماع الجديد للمجلس المركزي الفلسطيني، وفي الخطابين نقطة لقاء أساسية هي الحملة على حركة حماس. قال بوش: إن الخيارات لا يمكن أن تكون أوضح للفلسطينيين بين حماس ومجرميها بالأقنعة السوداء وهم يرمون الناس من سطوح المنازل، وبين السلطة الفلسطينية ورئيسها وحكومة سلام فياض اللتين تسعيان إلى استرجاع كرامة الفلسطينيين. وبالمقابل قال عباس عن حماس أشياء كثيرة واصفا زعماءها بالحقراء والكذابين، وهو نمط من الحديث لم يعرف عن الرئيس عباس الذي كان يقال عنه دائما إنه عف اللسان، ولم يستخدم مثل هذا الأسلوب في أية مواجهة سياسية سابقة.

وقد لفتت هذه الحملة على حماس أنظار المعلقين الإسرائيليين، وقال أحدهم «هاجم بوش حماس بتعابير قاسية وصفها مصدر سياسي رفيع المستوى بقوله: حتى نحن لا نتحدث عن حماس على هذا النحو» (ألوف بن، هآرتس). ويلفت النظر هنا أن الرئيس عباس كان قد اجتمع مع ايهود اولمرت قبل يوم واحد من خطاب بوش، وحذره اولمرت في اللقاء من تجديد التعاون السياسي مع حركة حماس (يديعوت أحرونوت)، بينما وصفت هآرتس ما جرى قائلة: إن تعابير بوش القاسية ضد حماس أتاحت لأولمرت أن يحذر عباس بنسف العملية السياسية إذا عاد إلى التحالف مع حماس.

قبل خطاب بوش بأيام قليلة، كان المناخ الإعلامي والسياسي في واشنطن، يعرض تحليلا للوضع الفلسطيني يقوم على ضعف سلطة الرئيس عباس وقوة حركة حماس في الشارع الفلسطيني. ونقلت صحيفة واشنطن بوست عن مسؤولين أميركيين بارزين قولهم «إن عباس ليس بالقوة السياسية التي تجعله يحقق هدف الولايات المتحدة في المنطقة». وتحدث (بروس رايدل) وهو محلل سابق في وكالة المخابرات الأميركية قائلا «لم يستطع عباس منذ توليه السلطة خلفا لياسر عرفات ممارسة مزيد من السلطة لعمل شيء»، بينما قال (ستيفن هادلي) مستشار الأمن القومي «إن رهان البيت الأبيض على عباس في خلق كيان مستقر في الضفة الغربية، واستئناف محادثات السلام مع إسرائيل، قد تراجع، وهذا ما جعل الرئيس الأميركي يعقد ما يشبه الاجتماع العلني لمناقشة ما الذي يتعين تقديمه لعباس، ماديا وسياسيا ودبلوماسيا، من أجل مواصلة دعمه في الضفة، وعزل حماس في غزة. وأضاف هادلي: إن استراتيجيتنا هي الضفة الغربية أولا، ودعم عباس وحركة فتح في الضفة سيتواصل، مشيرا في الوقت نفسه إلى عدم قدرة عباس على السيطرة على الضفة الغربية، وأنه لا يسيطر إلا على أجزاء منها، بينما حصدت حماس أصوات الناخبين في أكبر ثلاث مدن بالضفة قبل 18 شهرا. وأعرب هادلي عن أمله في أن تنجح حركة فتح بمعاونة القوات الإسرائيلية في الحد من نفوذ حماس في الضفة الغربية.

على خلفية هذا الفهم الأميركي للواقع الفلسطيني، جاءت دعوة الرئيس بوش في خطابه إلى عقد مؤتمر دولي. والسؤال هل سيشكل هذا المؤتمر خطوة إلى الأمام؟

من المهم أن نسجل هنا، أن فكرة عقد مؤتمر دولي ثان بعد مؤتمر مدريد الذي انعقد عام 1991، هي فكرة ذات منشأ فلسطيني وعربي، وبرزت هذه الفكرة بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد 2000 بين عرفات وايهود باراك، ولكن هذه الفكرة ووجهت دائما بمعارضة أميركية وإسرائيلية، وبرزت بعد هذه المعارضة سياسة إسرائيلية قادها آرييل شارون ترفض فكرة التفاوض مع الفلسطينيين وتعمل من أجل حل منفرد يفرض عليهم كأمر واقع. كما برزت سياسة أميركية جديدة أعطت لشارون موافقة أميركية (وعد بوش) على كل مطالب إسرائيل في مفاوضات الحل النهائي (الحدود، المستوطنات، اللاجئون، يهودية الدولة). فما الذي تغير الآن حتى تعود الإدارة الأميركية إلى تبني فكرة المؤتمر الدولي؟

إن خطاب بوش الداعي إلى مؤتمر دولي يستند إلى تصورين أساسيين، تصور فلسطيني ، وتصور عربي. في التصور الفلسطيني يعمل بوش صراحة على قسمة الفلسطينيين، ويعلن صراحة أن هدفه دعم الرئيس عباس لضرب حركة حماس، ويعلن مستشاره للأمن القومي صراحة أن هدفهم هو القسمة الجغرافية أيضا، وأن «استراتيجيتنا هي الضفة الغربية أولا». أما في التصور العربي، فإن واشنطن تسعى إلى قسمة ثانية بين ما تسميه العرب المعتدلين والعرب غير المعتدلين. وهذه قسمة وهمية حين يتعلق الأمر بتسوية الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ذلك أن العرب مجتمعون ومتفقون على دعم وتأييد مبادرة الملك عبد الله (المبادرة العربية للسلام)، وحين يكونون كلهم في هذا الموقف لا يعود هناك مجال للقسمة بين المعتدل والمتطرف. ولكن واشنطن تتطلع إلى غير ذلك، تتطلع إلى ضرورة قيام الحكومات العربية بتقديم مواقف مسبقة لإسرائيل لكي تتشجع على المضي في طريق السلام، وهنا ترى واشنطن أن العرب يستطيعون أن يقدموا مسبقا الخطوات التالية:

أولا: الاعتراف بإسرائيل.

ثانيا: القيام بزيارات عربية لإسرائيل على مستوى الوزراء.

ثالثا: الإقدام على بناء علاقات اقتصادية بين إسرائيل والدول العربية.

إن العرب يطلقون على هذه المطالب وصف «التطبيع». والمفهوم الأميركي والإسرائيلي للتطبيع، هو أنه يجب أن يتم أولا. وقبل الوصول إلى تسوية سياسية. إنه ثمن يدفع ثم يتم التفكير بالمفاوضات وبالسلام. قال بوش في خطابه «على الدول العربية أن تتابع هذه المبادرة (المبادرة العربية للسلام) من خلال وضع حد لوهم عدم وجود إسرائيل (الاعتراف)، ووقف التحريض على الحقد في إعلامهم الرسمي، وإرسال موفدين بمستوى وزراء إلى إسرائيل». وفورا ... ترجم الإعلام الإسرائيلي هذا الكلام الأميركي إلى لغة مباشرة، فكتب الصحفي ألوف بن قائلا «إن العرب المعتدلين الذين سيدعون إلى المؤتمر يجب أن يكونوا قد اعترفوا بإسرائيل».

وبما أن فكرة المؤتمر هي فكرة ذات منشأ فلسطيني وعربي، فقد عبرت الدول العربية عن ترحيبها بفكرة عقد المؤتمر. ولكن الدول العربية وضعت مباشرة، وإن يكن بلغة دبلوماسية، شروطا لعقد مؤتمر ناجح. فقد أعلنت مصر بلسان وزير خارجيتها أحمد أبوالغيط، إن الطرح الأميركي يحتاج إلى تطوير، فهو أولا «سيكون بطبيعة الحال مجالا للمناقشات»، وهناك ضرورة عربية ودولية «للتمسك بالمبادئ الأساسية للتسوية مثلما أشارت إليها الشرعية الدولية المتمثلة في القرار 242، وأن تكون حدود 1967 هي الأساس الذي تقوم عليه هذه التسوية.. وتأكيد تفكيك المستوطنات .. وتنفيذ المبادرة العربية بمنطلقاتها المحددة .. والاتفاق على الشكل النهائي للتسوية». وتشكل هذه العناوين أسس عملية تطوير فكرة بوش بعقد المؤتمر الدولي، وهي طريقة دبلوماسية لبقة للقول إن مصر تؤيد عقد المؤتمر، ولكنها لا ترى في التصور الأميركي ما يضمن نجاح هذا المؤتمر، وهي تقدم عناوين ما يلزم من تطوير للفكرة حتى تضع نفسها على طريق النجاح.

وجاء الموقف السعودي من دعوة بوش في السياق نفسه، إذ رحبت السعودية بالدعوة للمؤتمر، ولكنها قدمت مفهوما للتسوية يعاكس المفهوم الأميركي، إذ بينما تدعو واشنطن إلى علاقات عربية مع إسرائيل تسبق التسوية، تطرح السعودية ضرورة الوصول إلى تسوية أولا وبعدها تنشأ علاقات طبيعية بين الدول. قال البيان السعودي الرسمي «إن المبادرة العربية للسلام .. تبين بوضوح أن العلاقات الطبيعية بين إسرائيل وجميع الدول العربية تأتي كنتيجة منطقية لتحقيق الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة عام 1967». ويلفت النظر في البيان السعودي عند الحديث عن الاستيطان، دعوته إلى «تفكيك المستوطنات من دون الاكتفاء بوقف الاستيطان مستقبلا»، وهي الجملة نفسها التي وردت في حديث ابوالغيط حين قال «تأكيد تفكيك المستوطنات التي تمت إقامتها على الأرض الفلسطينية، وليس فقط بالامتناع عن بنائها في المستقبل»، مما يشير إلى تنسيق سعودي ـ مصري واضح.

على ضوء هذا يمكن القول إن المؤتمر الدولي قد ينعقد، ولكن تصورين متناقضين سينشآن فورا عندما يبدأ النقاش، وسيؤدي تصادمهما إلى فشله.

إن واشنطن لا تسعى إلى عقد المؤتمر من أجل إنجاح التسوية، بل لتحقيق أهداف سياسية صغيرة، منها أن يبرز الرئيس بوش أمام العالم كرئيس ناجح، ومنها مساعدة ايهود اولمرت كي لا يسقط في مواجهة أزماته الداخلية. الإعلام الإسرائيلي يقول «الجديد في خطاب بوش أنه يستجيب لرغبة اولمرت الذي يحتاج إلى إنجاز سياسي عشية صدور تقرير لجنة فينوغراد النهائي» حول فشل الحرب ضد لبنان. ويسجل الإعلام الإسرائيلي أيضا «إن هدف مبادرة بوش منع نشوء وضع يحاول فيه الأوروبيون والدول العربية فرض اتفاق على الطرفين بواسطة مؤتمر سلام خاص بهم».

وحين تترأس المؤتمر كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية، يستطيع الجميع أن يتذكروا أسلوب عمل «سيدة الصالون» في إدارة الحوارات السابقة بين عباس واولمرت، حيث تبرع المضيفة في تقديم القهوة وتبادل الأحاديث الجذابة ...... ثم ينفض السامر؟