واشنطن ومراجعة الذات.. أولوية المصلحة الأمريكية

TT

الجدل الأمريكي الداخلي يعكس مجددا، وكما في الكثير من لحظات التاريخ الأمريكي، وعند مفترقات طرق السياسة الخارجية الامريكية، صراعا بين رؤيتين ومنهجين، هو أولا صراع بين الرؤية المثالية التي تعتقد أن أمريكا يجب أن تنهض بمهمة رسالية تتمثل بنشر الديمقراطية والمثل الأمريكية في انحاء العالم، وأخرى واقعية تعتقد ان السياسة الامريكية يجب ان تحكمها الاعتبارات البراغماتية وحسابات الربح والخسارة، وهو ايضا صراع بين منهج التدخل الذي يعتبر ان مسؤوليات القوة العظمى لدى امريكا ترتب عليها ان تتدخل عسكريا وسياسيا في مناطق العالم المختلفة، ومنهج الانكفاء الذي يعتقد ان اي تحرك عسكري امريكي خارج حدود الامريكيتين، يجب ان يرتبط بوجود عدوان حقيقي على الأرض الامريكية.

لقد تبادل الحزبان الجمهوري والديمقراطي المواقع طوال التاريخ الامريكي في تبني الرؤيتين والمنهجين بحسب اعتبارات التنافس السياسي الداخلي، ورغم ما يبدو من طابع تاريخي في الصراع الراهن داخل الكونغرس الامريكي حول موضوع العراق الذي بات يجسد رمزيا وواقعيا احتدام الصراع بين المثاليين والواقعيين وبين التدخليين والانكفائيين، ورغم ما قد يتركه العراق من اثر ممتد زمنيا على رؤية الامريكيين للسياسة الخارجية وأثمان التدخل الخارجي وشروط الانغماس العسكري، الا أن كلا الحزبين الرئيسيين سينتهيان في لحظة ما الى ادراك ان انكفاء الولايات المتحدة قد يكون ثمنه اكبر من اندفاعها، وان الحفاظ على منزلة القوة العظمى ليس هبة مجانية، بل انه يتطلب صراعا لا يقل حدة وخطرا عن صراع التسلق الى هذه المنزلة.

قد ينتهي الجدل حول العراق في مرحلة ما الى صفقة مؤقتة كما هو حال التسويات السياسية التي تحكم النظام السياسي الامريكي، وعندما سيصل الديمقراطيون الى السلطة، سيكونون في وضع مختلف، فهم سيتجردون عندها من عبء منافقة الشارع لكسب تأييده، ومن القوة التي يمنحها منبر المعارضة في مواجهة حكومة تتآكل مصداقيتها، سيكون عليهم ان يتصرفوا كأمريكيين اكثر من كونهم ديمقراطيين، وقد يختارون الانسحاب من العراق، ولكن في الغالب بطريقة مختلفة عن ما يدعو اليه بعضهم الآن Cut and Run، وقد يختارون بقاء محدودا لأنهم عندها سيحملون عبئا مشابها لذلك الذي حملته ادارة بوش: الحفاظ على تفوق القوة العظمى الامريكية. في لحظة ما سيغدو الموضوع العراقي مسألة تكتيكية وهيمنة امريكا قضية استراتيجية، وعندها قد يصبح الديمقراطيون دعاة للتدخل، وقد يعيد الجمهوريون تبني الرؤية الانكفائية.

جزء مهم خاف من الجدل الراهن لا يدور حول مبدأ التدخل بل حول ادارته، وهذا الجزء يعبر عن مكنون الاختلاف الحقيقي، فاللوم يقع عادة على فشل الادارة بوضع استراتيجية واضحة لمرحلة ما بعد احتلال العراق، وعن اخفاقها في تحديد سلم للأولويات: مكافحة الارهاب، دمقرطة الشرق الاوسط، البحث عن اسلحة الدمار الشامل، الحفاظ على منابع النفط. قد تغير امريكا وقد فعلت سلم اولوياتها، الا انها ستجد صعوبة في المجازفة بالتنازل عن هيمنتها ومصالحها. ان الفرق بين امريكا التي يقودها بوش وتلك التي سيقودها خلفه هو الفرق بين امريكا التي تفترض لنفسها رسالة اخلاقية وتعتنق لأجلها رؤية ايديولوجية يعاب عليها عدم اتساقها الكامل مع المصلحة الامريكية، وامريكا الاقل التزاما بالمقولات الايديولوجية والأكثر اخلاصا لـ«المصلحة الوطنية»، انه اختلاف حول الاولويات اكثر من كونه اختلافا حول الهدف.

لقد دخلت امريكا المنطقة في مرحلة انفرادها بالزعامة العالمية ونمو تيارات العولمة التي باتت تفرض تحدياتها الخاصة على قدرة التفرد تلك، ولم يكن هناك انسب من جمهوريي بوش للترويج ايدولوجيا لمثل هذه الخطوة الثورية التي غلفت بمنطق الحرب الوقائية، كان هناك ادراك مفاده ان هذه المنطقة ظلت عصية على التغيير والانفتاح امام مشروع العولمة المتمثل بالديمقراطية السياسية واقتصاد السوق، وهي تهيمن في الوقت نفسه على عصب رئيس في الاقتصاد العالمي، فالتقت المنظومتان الاخلاقية والمصلحية الامريكية في تبرير التدخل وإعطائه زخما شعبيا في بدايته بسبب بروز المشروع الجهادي ـ الاسلاموي الذي اصبحت منظمة القاعدة رمزا له، قبل ان يؤدي الفشل في ادارة الوضع العراقي الى عرقلة هذا الاندفاع.

كان التدخل خلطا غير مسبوق لأوراق المنطقة وتقاليدها، البعض عارضه بسبب كراهية منهجية تم ارضاعها للعقل العربي تجاه امريكا، والبعض رأى فيه بداية خلاص من أنظمة حكم غير ديمقراطية، والغريب ان السلوك الشعبي العربي اظهر تناقضا صارخا بين تعويله على ان ترفع امريكا يدها عن دعم النظم غير الشعبية، وربما ان تسعى لإسقاط هذه النظم، وبين التصويت للتيارات والأحزاب المعادية لامريكا وإيصالها الحكم عندما تسنح الفرصة، ثم بعد ذلك مطالبة امريكا والغرب بدعم هذه التيارات عندما تصل للسلطة، تناقض يبرزه عدم القدرة على ادراك ان امريكا الساعية الى دمقرطة المنطقة هي امريكا الساعية وراء مصالحها، وهي ربما ستقبل الممارسة الديمقراطية، لأن ذلك ينسجم مع مثلها المعلنة، لكنها ليست مضطرة لقبول نتائجها عندما لا تكون منسجمة مع مصالحها.

قد تكون نظم المنطقة نجحت الى حد ما في ايقاف الاندفاع نحو دمقرطتها، وفي استثمار التوجس الشعبي من التدخل الامريكي والتخوف من تكرار النموذج العراقي لإضعاف المطالب بالتغيير الديمقراطي، وربما فعلت ميكانيزمات الثقافة العربية ومقولاتها المهيمنة فعلها في اضعاف اي تقبل لمنطق التدخل الأمريكي الجديد، لكن دفع امريكا، ديمقراطية كانت أم جمهورية، الى التخلي عن مصالحها سيكون اكثر صعوبة، وانفاذ الخزين الأيديولوجي لمواصلة التدخل ليس سهلا، اذ ان تنامي دور الجهاديين وظهورهم في مواقع جديدة بات يعطي مبررا «اخلاقيا» ربما اكثر قوة لتواصل التدخل الامريكي ولمزيد من الضغط على أنظمة المنطقة، فليس من المحتمل ان يقرر الأمريكيون المغادرة، وترك خزين النفط الهائل تحت رحمة الجماعات الجهادية والأصوليين المتشددين.

قد تتغير التكتيكات ومناطق الانتشار وطبيعة المواجهة وحجم الجرعة «المثالية» في السلوك الأمريكي، لكن ما يصعب تغييره هو النزعة الامريكية نحو البقاء في موقع القوة العظمى المتحكمة، والاعتقاد ان مثل هذا البقاء يشترط أشياء من بينها الوجود القوي والمهيمن في الشرق الأوسط، طالما كان للرحيل تكلفة أكبر.