تلال إريتريا

TT

كلفت الأمم المتحدة الزميل سمير صنبر، بصفته أميناً عاماً مساعداً، الإشراف على إجراءات استقلال اريتريا عن اثيوبيا. وتمت العملية في هدوء مطلق. ووقع زميلنا السابق في حب اريتريا. وأخذ يحدث عنها في كل مكان. واستغل ضعفي أمام تحرر الدول والشعوب، فأخذ يعظني في حب اريتريا ويحثني على زيارتها. وعلى طريقة التنويم المغناطيسي، قال لي إنني ما أن أقف فوق تلة مطلة على البحر حتى أقرر السكن هناك. وكان يقول إنها بلاد السكينة وهدوء النفس، لا يمكنك أن تعرف مَن يكون مَن ومَن يكون ماذا. وقلت معترضا «لكن هذه مملكة كاملوت المتخيلة وبلاد الملك ارثر». وردّ حازما: «هذه اريتريا. تلك هي اريتريا».

بعد قليل من عودة الزميل العزيز إلى الأمانة العامة في نيويورك، بدأت الدولة الحديثة تخذله. العادات القديمة تموت في صعوبة. واريتريا مؤلفة من عنصرين، افريقي وعربي. يخمد بركان فيفور آخر. وفجأة رأينا اريتريا تحارب في اثيوبيا، ساحتها القديمة، وتهدد اليمن، وتتعاطى في شؤون السودان الداخلية. واعتقد أنه ليس هناك صحافي عربي من جيل معين، إلا وله موقعة أدبية في دعم استقلال اريتريا وفكها عن اثيوبيا. والبعض له ملاحم ومطالعات. وقد تحولت أخبار اريتريا إلى زاوية يومية في الصحف خلال السبعينات. ونظمت رحلات خاصة إلى أرض المعارك. وبكل بساطة وبسالة أرادت بعض الأنظمة العربية أن تضع القضية الاريترية في موازاة القضية الفلسطينية. وساهم في ذلك إلى حد بعيد، بعض القياديين الفلسطينيين، الذين اعتبروا أن معركة الأرض واحدة، على غرار محرر أميركا الجنوبية المعاصر، هوغو شافيز.

شيئاً فشيئاً بدأنا ننسى أمر اريتريا. ونسيت فكرة الإقامة على أحد تلالها المطلة على البحر. ومضت اريتريا في طريقها الذهبي نحو التجذر في الاستفراق والاستعراب معاً. وقد تغير على الأمم المتحدة أمينان من أفريقيا. الأول صرفته المسز اولبرايت بتهمة التمرد والوفاء للجذور، والثاني أمضى عشر سنوات من التأمل. وفي هذه الأثناء أيضا، ذهب الصديق سمير صنبر إلى التقاعد، في الجادة المقابلة للمبنى الأزرق. لكن أحدا أو شيئا لم يتغير في اريتريا. ولم يذهب أحد للسكن على التلال المطلة على البحر. وقبل حين اصدر المعهد الدولي للصحافة تقريره السنوي حول أوضاع الصحافة والصحافيين في العالم. واريتريا تتقدم!. إنها قبل كوريا الشمالية وتوركمانستان في اعتقال الصحافيين ودبّهم في السجون والمعتقلات المجهولة من دون محاكمة. وتسمي منظمة صحافيين بلا حدود، الدول الثلاث «المثلث الجحيمي في ما يتعلق بحرية التعبير».

غريب هذا الذي يحدث للحريات، قبل الاستقلال وبعده، وكيف يرفع المناضلون شعار الديمقراطية قبل الوصول، ثم ماذا يحدث له بعد الوصول. وسرعان ما يتحول الرجل من أب لعائلة صغيرة إلى أب للأمة برمتها: أتاتورك، أبو الأتراك. وتوركمنباشي، أب التركمان. وصدام حسين، كان ينادي كل مَن حوله «يا ولدي». بكسر اللام. على الأقل.