إيران: حداء الصحراء وغناء الليالي الموحشة!

TT

حتى لو بقي منوشهر متكي يقسم بكل مقدَّسٍ وعزيز، وحتى لو بقي يحلف الأيمان المغلظة، بأن مقال حسين شريعتمداري في صحيفة «كيهان» الإيرانية لا يمثل وجهة نظر مرشد الثورة السيد علي خامنئي، فإنه لا يمكن تصديقه وعلى من له رأي غير هذا الرأي أن يعود الى هذا المقال وأن يقرأه مرة ثانية وثالثة، ثم وإن هو لم يستشفَّ ما بين سطوره، فإن عليه أن يقرأه مرة رابعة، وهو يضع صورة محمود أحمدي نجاد أمامه.

حتى خرائط العهد اليوناني القديم التي رُسمت قبل الميلاد وحتى خرائط الاستعمار البريطاني، قد استعان بها هذا الكاتب، الذي هو أحد مستشاري علي خامنئي وأقرب المقربين إليه، ليثبت أن جزر الإمارات العربية الثلاث «طمب الكبرى وطمب الصغرى وأبو موسى» فارسية وأن هذا الخليج فارسي وأن البحرين التي هي جزء لا يتجزأ من الجزيرة العربية: «كانت جزءاً من الأرض الإيرانية.. وخسرتها إيران جراء صفقة غير قانونية بين الشاه البائد وبين الحكومتين الأميركية والبريطانية، أدت الى انفصالها عن إيران»!!

هناك مثل يقول: «لا تنظر الى دموع عينيه، بل أنظر الى فعل يديه»، وهذا المثل ينطبق تماماً على الابتسامات «الثعلبية» التي رسمها منوشهر متكي على وجهه خلال زيارة الاعتذار الى البحرين، وهي ابتسامات لو قُرأت قراءة صحيحة، لثبت أن صاحبها أكثر تطرفاً من حسين شريعتمداري، وأن «الخل أخو الخردل» وأن العرب باتوا يتعاملون مع دولة، من المفترض أنها شقيقة!! تلوح لهم بالراية الإسلامية، بينما هي في الوقت ذاته تُسخِّر كل قدراتها وإمكانياتها لبعث امبراطورية قورش الفارسية.

لقد أُحتلت الجزر العربية الإماراتية الثلاث «طمب الكبرى وطمب الصغرى وأبو موسى» في عهد الشاه السابق، الذي وصفه مستشار «مرشد الثورة»، في مقاله الآنف الذكر الذي ادعى فيه إيرانية مملكة البحرين، بـ«البائد» وعندما جاء انتصار الثورة الخمينية في فبراير (شباط) عام 1979 استبشر العرب، وفي مقدمتهم عرب الخليج، خيراً واعتقدوا أن عهد النزاع والصراع والنظر الى ما وراء الحدود والتدخل في الشؤون الداخلية للدول «الشقيقة» قد رحل مع رحيل محمد رضا بهلوي الذي كان يعتبر نفسه شرطي المنطقة. عندما قام الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بزيارته الشهيرة الى طهران، بينما كانت «الثورة» لم تَحْسمُ انتصارها بصورة نهائية بعد، فتح أمام قائد هذه الثورة الإمام الخميني، رحمه الله، ملف الجزر الإماراتية الثلاث التي احتلها الشاه «البائد»!! والتي سمـَّم احتلالها العلاقات الأخوية العربية ـ الإيرانية لكنه لم يتلق أي إجابة شافية.. وهكذا فقد ثبت لاحقاً أن أطماع الثورة الإسلامية في هذه الجزر الثلاث وفي الشاطئ الغربي للخليج، بما في ذلك البحرين، وأيضاً في العراق لا يقل عن أطماع عرش الطاووس في زمن محمد رضا بهلوي الذي كان يتصرف على أنه قيصر القرن العشرين في هذه المنطقة.

لو أن إيران الثورة لا تتصرف تجاه هذه المنطقة على أساس أنها وريثة الامبراطورية الفارسية، وأن من حقها أن تتدخل في شؤون العراق الداخلية وفي الشأن اللبناني والفلسطيني وحتى في الشؤون الداخلية لليمن والخليج (العربي) كله والجزائر والمغرب، فإن مقال حسين شريعتمداري ما كان يستحق كل هذا الاهتمام، ولما كان منوشهر متكي بحاجة الى المجيء الى المنامة ليبرر، بدون اعتذار، ما لا يمكن تبريره.

بعد انتصار الثورة الإيرانية في فبراير (شباط) عام 1979 دار جدل جدي وجاد حول ما يمكن ان تفعله هذه الثورة بعد انتصارها هل تركز كل جهودها لبناء دولة تكون مثلاً يحتذى للمسلمين كلهم في هذه المنطقة وخارجها، أم تتجه اتجاها آخر وتسعى لتصدير نفسها الى الدول المجاورة، وبخاصة الدول العربية، وللأسف فإن الغلبة كانت للذين يرفعون شعار الثورة الدائمة، والذين بدأوا ومنذ اللحظة الأولى العمل على نقل ثورتهم الى خارج الحدود الإيرانية.

وهنا فإنه كان على القادة الإيرانيين إن في عهد الإمام الخميني، رحمه الله، وإن في الفترات اللاحقة أن يعيدوا قراءة الأحداث قراءة صحيحة.. وإنه من المؤكد لو أنهم عادوا لقراءة الأحداث قراءة صحيحة لوجدوا أن ثورتهم التي بادرت وفور انتصارها الى التطلع الى ما وراء الحدود والسعي لتصدير نفسها هي سبب وقوف معظم الدول العربية، وفي مقدمتها دول الخليج العربي الى جانب صدام حسين الذي كانت تعرفه هذه الدول كلها معرفة حقيقية، وتعرف أنه مصاب بعقدة العظمة، وأنه بات يعتبر نفسه، بعد رحيل الملك فيصل بن عبد العزيز ورحيل جمال عبد الناصر رحمهما الله، وبعد انهيار عرش محمد رضا بهلوي، بأنه الزعيم الأوحد في هذه المنطقة.

لو أن وجهة نظر الذين كانوا يرفضون شعار «الثورة الدائمة» ويقاومون استراتيجية تصدير هذه الثورة الى الخارج هي التي انتصرت، فإن المؤكد أنه ما كان من الممكن ان تقف غالبية الدول العربية، وفي مقدمتها دول الخليج الى جانب صدام حسين وأن أقصى ما كان من الممكن ان يكون هو أن تقف هذه الدول على الحياد، وأن تسعى لوقف تلك الحرب المحرمة المدمّرة بين دولتين شقيقتين بالوسائل السلمية.

عندما يثبت أن موازنة حزب الله اللبناني من المال الإيراني (الحلال) بلغت نحو نصف مليار دولار سنوياً، وأن موازنة «حماس» لا تقل عن هذا المبلغ إلاَّ بقليل، وعندما يثبت أن انقلاب غزة العسكري الأخير جرى التخطيط له في طهران وأن حركة «الحوثي» في اليمن وراءها فيلق القدس، فكيف من الممكن إذاً ألا ينظر العرب، حتى بما في ذلك الذين تعاطوا مع ابتسامات منوشهر متكي بحسن نية مع أنهم يعرفون حقيقة ما وراءها، الى مقال حسين شريعتمداري في صحيفة «كيهان» الإيرانية على أنه يمثل وجهة نظر مرشد الثورة السيد علي خامنئي وأنه يعبر عن حقيقة تطلعات إيران الامبراطورية تجاه هذه المنطقة.

كيف من الممكن أن يصدق العرب، عرب الخليج وعرب بلاد الشام وأيضاً عرب إفريقيا، ابتسامات منوشهر متكي ويطمئنوا إليها ويعتبروا أن ما كتب في «كيهان» الإيرانية مجرد نزوة قلم غير منضبط، وهم تابعوا زيارة محمود أحمدي نجَّاد الأخيرة الى دمشق وحديثه عن الانتصارات التي تتلاحق تباعاً على «فسطاط الممانعة» وأن هذا الصيف سيكون حاراً وأنه ربَّت على كتف خالد مشعل خلال لقائه به وبارك الانقلاب العسكري الأخير الذي قامت به حركة «حماس» في غزة وكانت نتيجته الأولى شق الساحة الفلسطينية في فترة من أصعب الفترات التي مرَّ بها الشعب الفلسطيني وأدقها.

إيران التي تتدخل في شؤون العراق على نحو مكشوف والتي لم تنكر ذلك باتت تفرض نفسها وصياً على الشعب العراقي كله، وأخذت تتصرف على أنها هي التي يحق لها دون غيرها أن تقرر مستقبل هذا الشعب، وأن تحدد مصيره ومصير بلده على الخريطة السياسية لهذه المنطقة ولذلك فإنها انتدبت نفسها للتفاوض مع المحتلين الأميركيين للاتفاق على الطريقة التي من الممكن اتباعها لحل القضية العراقية المستعصية والتي ازدادت استعصاء بسبب التدخلات الإيرانية السافرة.

لم يجد حسين شريعتمداري مثلاً فارسياً ليشتم من خلاله وزراء خارجية ودفاع دول الخليج (العربي) ويستهزئ بهم سوى المثل الذي يتحدث عن «غناء الليالي الموحشة» وهو أراد القول وبطريقة استفزازية ووقحة: أن حال هؤلاء الوزراء، الذين أكدوا في اجتماعهم الأخير مساندتهم لحق دولة الإمارات العربية في السيادة على الجزر الثلاث الآنفة الذكر، كحال المتجول في شوارع طهران عندما كانت معتمة وبلا إضاءة ولا كهرباء، حيث كان لا يجد ما يبعد به الخوف عن نفسه سوى الغناء بأعلى صوته. وهنا فإن مستشار مرشد الثورة رئيس تحرير صحيفة «كيهان» الإيرانية ربما لا يعرف أن هذا المثل، الذي يظنه فارسي، هو عربي أيضاً ولكن جرى تحريفه بطريقة تحريف حتى بعض الأحاديث النبوية الشريفة، وهذا المثل يقول: كحادي الصحراء والمقصود بـ«حادي الصحراء» هو المسافر في الصحراء (العربية) ليلاً الذي عندما يستبد به الخوف يأخذ بالحداء والغناء بدل أن يكتم أنفاسه، ويصمت حتى لا يرشد هوام الأرض ولصوصها الى نفسه.

ليس في مصلحة طهران أن تتمادى في لعبة السعي لإحياء امبراطورية قورش الفارسية، فالإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، قال لمن يحاول أن يجد في الناس عيوباً وهو نفسه كله عيوب: «.. وكُلُّك عورات وللناس أعينُ».. فإيران دولة فسيفسائية التكوين العرقي والطائفي والمذهبي، ولذلك فإن فتح هذا الملف بالطريقة التي يُفتح بها الآن ستدفع ثمنه جمهورية الوليُّ الفقيه غالياً والضحية ستكون هذه الوحدة التي تُفرض على عرب الأحواز وعلى الأكراد والبلوش والبختيار والتركمان بالقوة وبالحديد والنار والكل، يذكر ما حدث في كرمنشاه الكردية، بعد انتصار الثورة الإسلامية مباشرة!!