دارفور.. كانت هناك بحيرة قبل 12 ألف سنة!

TT

يقول المولى عز وجل في محكم التنزيل: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين). هود: 44.

وفي هذا الأمر الإلهي للأرض والسماء نستنتج حقيقة علمية هامة وهي أن الأرض تحتوي على مخزون مائي ضخم يعادل ذات الكمية التي أغرق بها المولى عز وجل الأرض وما عليها من جبال وتلال عالية، ولعل هذا يكون بداية جديدة لتاريخ المخزون الجوفي الذي تم تجديده آنذاك.

والماء شأن إلهي صرف، إذ اقترن في كثير من آيات القرآن الكريم بالإنزال... فالماء هو المعين المادي للحياة بجانب القرآن الكريم الذي يقوم بدور المعين الروحي للحياة البشرية.

وقد تحدى المولى عز وجل في كثير من آياته البشر في شأن الماء وأذكر هنا تحديا واحدا جاء في الآية الكريمة: «وأرسلنا الرياح لواقح وأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين» 22: الحجر.

والخزانات الإلهية كثيرة ومتعددة منها المحيطات والبحار والبحيرات والأنهار وباطن الأرض وطبقات الجو العليا، كل هذه الخزانات الإلهية ـ اعتقد والله أعلم ـ أعيد ترتيبها وتجديد نشاطها بعد ذلك الفيضان الموثق قرآنيا..!

ومن آيات الله الظاهرة والتي نمر عليها بدون إعارتها الاهتمام اللازم هي تلك الآية المتمثلة في بئر زمزم... والتي بحق تعتبر أسطورة المخزون الجوفي على مر العصور وحتى قيام الساعة، فالسيدة هاجر عليها رضوان الله قامت بمسح جيوفيزيائي ولعله الأول في تاريخ البشرية، والأشواط التي قطعتها بين الصفا والمروة، تقوم الأبحاث الجيوفيزيائية الحديثة بأشواط مشابهة لما فعلت السيدة هاجر، ولكن الفرق بين الاثنين هو أن الجيوفيزيا التي اتبعتها السيدة هاجر كانت جيوفيزيا ربانية التوجه والتوجيه، لذا كان الناتج اعجوبة من أكبر عجائب الدنيا وهي بئر ماء زمزم الجوفي الرباني!

وما دعاني لكتابة هذا الحديث وتلك المقدمة هو ذلك الجدل الدائر الآن في السودان حول بحيرة تم اكتشافها بواسطة د. فاروق الباز وأثار ضجة كبرى في الأوساط العلمية السودانية والسياسية والاجتماعية..!

وكما ذكرت أن الماء شأن إلهي خالص تعهد الخالق الكريم بإنزاله وحفظه، فالأمر يجب أن يرد الى أصله حتى لا يختلف حوله الناس..!

في هذا الصدد يقول الخبير العارف بالمياه الجوفية، الاستشاري عبد الرازق مختار، وقد عملنا معا في هيئة توفير المياه سابقا وكان مديرا لإدارة ابحاث المياه الجوفية ثم مديرا عاما للهيئة القومية للمياه، وهو رجل عالم عمل في أبحاث المياه قرابة الاربعين عاما قضاها باحثا في الأحواض المتعددة في السودان خاصة الحجر الرملي النوبي في شمال دارفور، وهو يعد مرجعا علميا في هذا المجال، إن الاكتشاف الذي يدعيه د. الباز معروف منذ عام 1935 حيث أعد الخبير الانجليزي K.S. Sandford دراسة عن وجود المياه الجوفية وامتداد خزاناتها شمال غربي السودان في عام 1935، أي قبل ولادة د. الباز بثلاثة أعوام، حيث إن تاريخ ميلاده يشير الى عام 1938..!

وقد نشرت الدراسة في المجلة الجيوفيزيائية آنذاك في العدد 135!!

هذا بالاضافة الى ما كتبه بروفيسور Whiteman رئيس شعبة الجيولوجيا بجامعة الخرطوم في كتابه جيولوجيا السودان، وقد افرد بابا كاملا عن خزانات الحوض النوبي بما فيه شمال دارفور!!

كما أن هناك خريطة المياه في السودان التي أعدها بروفيسور Vail بواسطة الأقمار الاصطناعية منذ عام 1974 وهذه الخريطة موجودة بكثرة في مكاتب الهيئات الولائية..!

ويقول الخبير الاستشاري عبد الرازق مختار، الذي كان مديراً مناوباً من جانب حكومة السودان لمشروع دراسات الحوض النوبي الممول من المنحة الإيطالية، وكان مكتب الأمم المتحدة Undp يقوم بدور المنسق بين دول الحوض، إنهم بين عامي 1986 ـ 1989 قاموا بتغطية المنطقة الشرقية للحوض النوبي، وتغطي المرحلة الثانية للأبحاث في الحوض إدارة أبحاث المياه الجوفية بوزارة الري والموارد المائية..!

ويشير الخبير عبد الرازق مختار إلى الدراسات المكثفة التي قامت بها مجموعة جامعة برلين الغربية وبإشراف بروفيسور Klich التي قامت بدراسة التكوينات الجيولوجية ووجود المياه الجوفية والتاريخ الجيولوجي والنشاط البشري بشمال غربي السودان، مصر، ليبيا وتشاد، تم ذلك بالتنسيق مع إدارة أبحاث المياه الجوفية بهيئة توفير المياه سابقاً، وكل هذه الدراسات موجودة بمكتبات الجيولوجيا وأبحاث المياه الجوفية، وقد استخدمها الكثيرون في دراساتهم العلمية لنيل درجة الماجستير والدكتوراه وهي ما زالت في متناول من يطلبها!.

المنطقة المعنية تتكون من عدة أحواض متداخلة منها حوض «ساني حيى» وقد حددت معالمه دراسات قامت بها شركة «هنتنج» للخدمات الفنية مع هيئة توفير المياه وبتمويل من الحكومة البريطانية خلال الفترة 1968 ـ 1970.

خريطة السودان الهايدوجيولوجية (1989) التي أعدتها إدارة أبحاث المياه الجوفية بالتعاون مع العون الهولندي توضح وجود هذا الحوض!.

ومن الآبار التي تم حفرها بواسطة هيئة توفير المياه بذلك الحوض ومنذ أوائل ستينات القرن الماضي أذكر بعضا منها.. الحارة، الوخانم، ملم الحوش، وادي تيما وآبار طريق ليبيا وغيرها، وقد قامت حكومة الولاية الشمالية بحفر بئرين بمحطة جمارك كريب التوم في الجزء الشمالي من الحوض!.

في وادي هور توجد المياه الجوفية في أعمال بسيطة "10 أمتار" هذا الوادي يرتاده الرعاة من شمال دارفور وشمال كردفان في الشتاء، حيث ينمو نبات الجزو الذي تعتمد عليه الماشية والضأن والإبل.

كما أن الخبير عبد الرازق مختار قام بالعديد من الدراسات التي طلبتها المنظمات العاملة في شمال دارفور لتحديد مواقع حفر آبار في ذات الحوض!.

ما أوردته من وثائق ودراسات قليل من كثير ورد في هذا الصدد، ولا يتسع المجال لذكر كل الدراسات التي أجريت في دارفور بالذات، خاصة عن هذا الحوض..!

أما عن البحيرة التي تبناها د. الباز مع فريق من جامعة بوسطن الأميركية وأعلن عن اكتشافها في شمال دارفور فإن سوء الفهم في هذا الصدد نجم عن خلط حقيقتين هما:

أولاً: ان فريق جامعة بوسطن اكتشف بحيرة كانت في شمال دارفور قبل اثني عشر ألف عام (12000)، في الوقت الذي كانت فيه أجزاء شاسعة من أوروبا وأميركا مغطاة بالجليد، وحسب ما يقول فريق الجامعة أن البحيرة جفت قبل 12000 ـ 8000 سنة ولا توجد نقطة ماء واحدة في البحيرة الآن!.

ثانياً: الحقيقة المعروفة لدى الجهات المعنية بالأمر منذ أكثر من ثلاثين أو أربعين عاماً هي أن هناك خزاناً جوفياً غنياً بالمياه في الجزء الشمالي من دارفور. هذا الخزان معروف بـ Sahara basin وتمت دراسته. وقد رافقت هذه الدراسة خريطة هيدروجيولوجية لكل السودان، ومن المعلومات المستقاة من الدراسة أن المنطقة تبعد عن الفاشر 550 كيلومترا شمالا وبها تجمعات رعوية صغيرة جداً في أكثر مناطق البحيرة انخفاضاً.

يبلغ عمق الحفر في المنطقة 250 مترا وترتفع المياه حتى عمق 30 مترا وتبلغ سماكة الحوض تقريباً 200 متر.

ومنطقة الخزان لم تجر فيها استثمارات في الوقت الحالي نسبة لوجودها في منتصف الصحراء وبعيدة عن المناطق المأهولة بالسكان. كما أن عمق الخزان يجعل الاستثمار فيه مكلفا في الوقت الحالي، وقد فشل مشروع ساق النعام نسبة للتكلفة العالية، رغم توسطه المناطق السكنية، إذ يبعد 40 كيلومتراً فقط عن الفاشر، وأقل من ذلك بكثير عن مدينة كتم!.

أما عن مشروع الألف بئر، فاعتقد أن هذه كلمة حق أريد بها باطل!..

إن قضية دارفور في الأساس قضية مياه لطالما كتبت فيها وحذرت من عواقبها، فبحكم عملي في الهيئة القومية للمياه الريفية، فإني أدرك ما يحدثه الماء من احتكاكات بين القبائل التي تمتهن الرعي، وتلك التي تمتهن الزراعة، وكان خروج كثير من محطات المياه عن العمل هو السبب في هذه الاحتكاكات، وتحولت بذلك إلى قضية أمنية، ومن ثم تدخلت قوى إقليمية ودولية حولتها إلى قضية سياسية!.

والذين يعدون بحفر ألف بئر يدركون هذه الحقيقة جيداً، ومنظماتهم تعمل في دارفور منذ عشرات السنين، لم يكلف هؤلاء أنفسهم بحفر بضع آبار ناهيك عن ألف بئر!.

وما الألف بئر إلا لإحراج الدولة السودانية وكشفها أمام شعبها بأنها مقصرة في حقه!.

ألف بئر مع عشرات الآلاف من الجيوش الأفريقية والهجين والدولية ومئات من المنظمات المشبوهة، هذا في نهاية الأمر يؤدي إلى عزل دارفور تماما عن بقية السودان، وإن كان هناك مصطلح سياسي جديد نطلق عليه الاستعمار بالتراضي، لكان ما يدور في دارفور أصدق مثال له!.

وما أؤمن به أن قضايا أي دولة لا يحلها إلا شعب ذات الدولة مع الاستعانة، إن لزم الأمر، بأولئك الذين لا يحملون أطماعاً تجاه تلك الدولة.

إن في الأمر لمكرا..!

* خبير مياه وكاتب صحافي سوداني