ديمقراطية المجتمع الاستهلاكي

TT

من كان قبل الآخر في الولايات المتحدة: الديمقراطية أم الدولار؟ أم أن تلازمهما العضوي بات عصب الدولة الأعظم في العالم وعمودها الفقري؟

ابتداء من الانتخابات الحزبية التمهيدية وانتهاء بالحملة الانتخابية الرئاسية.. لا تترك الديمقراطية الاميركية مجالا للشك في ان الدولار ليس فقط الزيت المحرك لماكينتها السياسية، بل الصوت الاول، والأدوى، في أي انتخاب «ديمقراطي» في البلاد.

ورغم ان الظاهرة اللافتة في معركة الرئاسة الاميركية الراهنة، مقارنة بالمعارك السابقة، هي انطلاقتها المبكرة، فقد نجح المتنافسون على كرسي البيت الأبيض الوثير في تحصيل 254 مليون دولارا لانفاقها على حملاتهم الانتخابية، وذلك لغاية الاسبوع المنصرم فقط، علما بأن سنة وربع السنة، ما زالت تفصل الاميركيين عن موعد الانتخابات.. وعلما ايضا ان التقديرات المتداولة لحجم الانفاق النهائي على المعركة الانتخابية بحلول الموعد المحدد لها، أي نوفمبر(تشرين الثاني) 2008، تضعه في حدود عدة مليارات من الدولارات .

وإذا ما تذكرنا ان الموسم الانتخابي الأميركي يتكرر كل اربع سنوات، وان نفقاته تزداد كلفة دورة إثر دورة، يمكن أخذ فكرة تقريبية عن مليارات الدولارات التي تهدر، باسم الديمقراطية، على ما هو في نهاية المطاف عملية انتخابية عادية.

فهل يحتاج النظام الاميركي الى شهادة أفضل من هذه على كونه ديمقراطية تقاس بالمال.. وترتهن للمال أيضا؟

شعبية المرشح تقاس بما يجمعه من «تبرعات»، وحظوظ نجاحه في المعركة يحددها رصيد حملته من الدولارات. أما سياسته فلا غرابة ان تعكس مصالح كبار المتبرعين وبينهم، طبعا، اللوبي الصهيوني النافذ ماليا وسياسيا.

أهي ديمقراطية الأميركيين العاديين أم ديمقراطية المجتمع الاستهلاكي الرأسمالي ما تطبقه الولايات المتحدة كل أربع سنوات؟ وهل هذه هي الديمقراطية التي تتطلع واشنطن إلى تصديرها لشعوب العالم الفقيرة؟

ربما كان تراجع شعبية الادارة الجمــهوريــة، حافزا استثنائيا في تبكير جميع السياسيين في افتتاح معركة «الخلافة». ولكن ذلك لا يمنع من ان تتحول ظاهرة التبكير الى سابقة تكرر في كل مناسبة انتخابية، ما قد يفرض على الاميركيين ان يعيشوا أكثر من ربع ولاية كل رئيس من رؤسائهم في «موسم انتخابي» مزدهر.. هذا إذا لم تتحول الساحة السياسية الداخلية في الولايات المتحدة الى حالة انتخابية دائمة.

لا جدال في حق المواطن الاميركي في ان يمارس «ديمقراطيته» بالصيغة التي ارتآها «الآباء المؤسسون» لدولته وان جرى استغلال «الثغرات» الدستورية فيها. ولكن ما لا يدرك أبعاده المواطن الأميركي العادي، في عهد الزعامة الأحادية لبلاده، أن صوته أصبح بـ«صوتين» فهو يقترع، من جهة، لرئيسه المباشر، ومن جهة ثانية، للرئيس غير المباشر لشعوب العالم الأخرى ـ أي انه يقرر اسم الرئيس المنتخب للولايات المتحدة والرئيس غير منتخب للعالم أجمع.

ولأن العالم أجمع عاجز عن التأثير المباشر على قرار الناخب الاميركي، فأضعف الايمان أن تخرج «مؤسسة بحوث» محترمة ـ بين العديد من هذه المؤسسات التي اشتهرت الولايات المتحدة بها ـ بدراسة موضوعية لاصلاح النظام الانتخابي، بحيث يصبح اقل هدرا للمال وأقل مضيعة الوقت وأكثرا اتاحة لفرص ترشح المستقلين عن الحزبين الاميركيين الرئيسيين، على صعيد التكاليف المالية للمعركة على الاقل.

أما الظاهرة الثانية في الحملة الانتخابية الراهنة في الولايات المتحدة فقد تكون الأجدر باهتمام العالمين العربي والإسلامي، أي ظاهرة تفوّق حجم التبرعات التي حصل عليها المرشحون الديمقراطيون، بنسبة ملموسة، على التبرعات المقابلة للمرشحين الجمهوريين، ما قد يكون، بحد ذاته، مؤشرا على اتجاهات المعركة منذ الآن.

وإذا جازت القراءة المالية للمعركة في استنتاج حصيلتها السياسية مسبقا، فقد يكون اتجاه الأموال.. الوجه الايجابي الوحيد لهذا البذخ في الانفاق الانتخابي.