أنا والبيجوم

TT

من يزور مدينة اسوان المصرية، تلفته مقبرة الاغاخان على تلة تشرف على المدينة. ويقال ان البيجوم ام حبيبة ارملة الاغاخان حرصت الى ان وافاها الأجل على تسلق الدرج العالي يوميا لكي تضع وردة حمراء بجوار مرقد زوجها الراحل. هذه البيجوم عششت في خيالى زمنا ربما لأن مثل هذا الوفاء نادر في زمننا هذا. غير ان الصدفة ساقتني قبل ايام لكي التقي بيجوم اخرى هي البيجوم التي قدمت من مالها الكثير لكي يبنى في ضواحي لندن مسجد صغير وجميل كان وما زال شاهدا على الوجود الاسلامي في بريطانيا، وعلى تراث فني راق في المعمار والزخرف. في شارع خلفي من مدينة صغيرة هي مدينة ووكنج يقع هذا البناء المربع الصغير تعلوه قبة خضراء وتزدان واجهته بنقوش اسلامية بلون الفيروز الموشى بالذهب وآيات قرآنية تعكس مهارة الكتابة بالخط العربي. مبنى ذو مواصفات فنية عالية وسيميترية محببة وسط حديقة معتنى بها وملحق به مركز خدمات للدارسين والمغتربين.

في الحقيقة، أنا لا اعرف من تلك البيجوم سوى انها كانت حاكمة ولاية بوبال في الهند. أما مسجد ووكنج فقد ظل قائما منذ بنائه في عام 1889 حين صممه المعماري الانجليزي تشامبرز بعد الاطلاع على العديد من الكتب في المكتبة البريطانية لكي يتعرف على المعمار العربي. ورغم ان المسجد شهد فترات أفول، حيث انه اغلق لمدة 12 عاما بعد وفاة راعيه، جوتليب لايتنر، استاذ اللغات في جامعة لندن، اعيد فتحه في عام 1913 واصبح قبل انشاء مسجد ريجنت بارك الكبير مركزا ثقافيا مهما لمسلمي بريطانيا والدارسين وكبار الزوار، خاصة بعد ان اعتنق الاسلام عدد من البريطانيين ذوي الاصول الارستقراطية.

قد لا اكون مخطئة لو افترضت ان لندن تتميز عن سائر العواصم الاوروبية الاخرى بعدد مساجدها، من ريجنت بارك الى نوتنجهيل الى فينزبري بارك الى شرقي لندن الى كنجستون الى ووكنج وغيرها. وطريف ان يدرك المرء بأن حكاية الوجود الاسلامي في بريطانيا، بدأت في عهد الامبراطورية. في العقدين الاخيرين من القرن التاسع عشر كان الناظر الى خارطة الامبراطورية يدرك انها تشمل نيجيريا ومصر والهند والملايو وغيرها من بلاد المسلمين التي زودت الامبراطورية بالايدي العاملة الرخيصة والمواد الخام وساهمت في تحقيق الرخاء.

وعندما قررت السلطة الاستعمارية ان تبني سدا في مايبور في جنوب كشمير تسبب بناء السد في اغراق قرى كشميرية وتشريد اهلها. فدفعت الشركة البريطانية التي نجحت في الحصول على امتياز بناء المشروع الى منح الجنسية البريطانية لسكان تلك القرى الذين كانوا في ذلك الوقت لا يعرفون من العالم شيئا خارج حدود قراهم. فكانت هجرة سكان تلك القرى الى بريطانيا وانخراطهم في العمل في مصانع الصلب ومصانع النسيج في الشمال هي النواة التي نمت من خلالها الجالية المسلمة فيها، وأضيف الى هؤلاء الذين تطوعوا للقتال الى جانب بريطانيا وحلفائها في الحرب العالمية الاولى، منحتهم بريطانيا حق الجنسية فاكتسبها من لم تبتلعه ماكينة الحرب وهم واسرهم انتشروا في انحاء الجزر البريطانية.

قصة الهجرة من كشمير وشبه القارة الهندية ليست هي القصة الوحيدة لأن الجالية العربية المسلمة في بريطانيا بدأت بهجرة التجار والملاحين من حضرموت في جنوب اليمن، حيث كان الفحم الذي تنتجه المناجم البريطانية ينقل على سفن ترسو في عدن تمهيدا لنقله الى منافذ البيع. فنشطت الهجرات خاصة بعد افتتاح قناة السويس في عام 1860. وفي ستينات القرن العشرين تدفقت الهجرات العربية من الدارسين والمعارضين السياسيين وغيرهم.

لقد حان الوقت للتأريخ لتلك الهجرات ورصد ملامح ذاك الوجود وانجازاته ومشروعاته وادوات اندماجه في مجتمع الهجرة والحفاظ في الوقت نفسه على الثقافة الأم. ولا شك ان مسجد ووكنج هو الشاهد على اندماج الحضارات فهو مسجد دفعت كلفته هندية موسرة، بناه معماري بريطاني، ورعته جالية آسيوية متعددة الجنسيات ويؤمه مصلون عرب وأوروبيون وافغان وباكستانيون وماليزيون. والاطرف هو ان يصبح مزارا سياحيا تفخر بوجوده بلدية ووكنج وتحمل اليه رحلات مدرسية للتعريف بالاسلام والمسلمين.