الإسلامويون يشبهون بلدانهم!

TT

لافت للنظر ما أعلنه رجب طيب اردوغان، زعيم حزب «العدالة والتنمية»، ذي الاتجاه الإسلامي في تركيا، الذي فاز بما يقارب

الـ61% من مقاعد البرلمان، من احترامه للمبادئ الأساسية للجمهورية التركية، وأولها أن تركيا دولة مدنية علمانية. اردوغان من حيث المظهر ليس رجلا ملتحيا، رغم كونه إسلامويا، كما أن رجال حزب «العدالة والتنمية» لم يكونوا من طويلي اللحى، ولم تكن نساؤهم من المحجبات. ومن هنا أطلق فرضيتي، وهي أن الإسلامويين يشبهون بلدانهم ومدنهم ومعمارهم وشوارعهم وربما وسائل مواصلاتهم. فإن وجدت نفسك في بلد متخلف ذي شوارع قذرة وسيارات أجرة سيئة المظهر والمخبر، فتأكد أن إسلاموييه سيكونون أقرب إلى التطرف منهم إلى الاعتدال. أما إذا كنت في بلد على مضيق البوسفور وينعم شطر من المدينة بأوروبا، بينما يستريح شطرها الآخر في آسيا، مدينة نظيفة بعمران جميل وشوارع منظمة وإشارات مرور حديثة، فلا بد أن يكون إسلامويوها يشبهون رجب طيب اردوغان وعبد الله غل وسلفهما نجم الدين أربكان، أي حليقي اللحى وحسني المنظر.

الأفكار متاحة لكل البشر، ولكن المثير للاهتمام هو كيف يتنوع البشر في بناء عمران هذه الأفكار. فكما أن مواد البناء متاحة للجميع، إلا أن العمران الذي يمكن أن تنتجه مجموعة قد يختلف كليا من الناحية الجمالية والوظيفية عن مجموعة أخرى.. ومن هنا قد يجوز لنا أن نقول بأن عمران وبناء إسلام أردوغان أقرب إلى العمارة السنانية، التي نراها في اسطنبول، عمارة جميلة متناسقة، بينما إسلام الجماعات في مصر مثلا هو أقرب إلى معمار زوايا عشوائيات إمبابة، معمار فوضوي خرب.

عندما تكون المدن متخلفة بكل ما فيها من بنى تحتية ومؤسسات إدارية ومنشآت اقتصادية وعمران وخدمات (أفغانستان مثلا)، فكيف يمكن أن نتوقع أن تنتج هذه المدن فكرا متطورا دينيا كان أو دنيويا! فكلما تخلفت المدن والشوارع وسيارات الأجرة وزادت النفايات في الشوارع، كان بطبيعة الحال، تفسير الناس لجوهر دينهم (أي دين وليس الإسلام وحده) بدائيا ومتخلفا. وما هذا بمنظور مكاني فقط وإنما هو منظور زماني أيضا، أي أن التفسيرات الاسلامية التي ظهرت في بغداد والبصرة في الدولة العباسية في أوج تقدمها الحضاري هي التي أتت بالتنوع في مشارب التفسير من المعتزلة إلى المرجئة إلى الأشاعرة وكثيرين غيرهم.

أما على مستوى المكان اليوم، فيمكنك وأنت مغمض عينيك أن تتبين الخط البياني الذي يعكس مدى تخلف الناس أو تقدمهم في فهمهم لدينهم، مبتدئا بالدول الأكثر تخلفا من أفغانستان وغزة إلى السودان إلى الدار البيضاء إلى القاهرة مرورا بجنوب السعودية إلى اسطنبول وماليزيا، والإسلام الحضاري الذي يتبناه رئيس وزرائها عبد الله أحمد بدوي. ومن خلال هذا الخط البياني يمكننا معرفة أي مكان يحتضن الرؤية الإسلاموية الأكثر استنارة أو الأكثر انغلاقا.

المجتمع الفلسطيني مثلا، رغم خصوصية حالة الاحتلال، يفرز ثلاث شرائح من الإسلاميين تتبع ثلاثة أنماط مختلفة للحياة. إسلامويو غزة، وهي البقعة الأكثر فقرا والأقل تنمية، هم الأكثر تشددا، وإسلامويو الضفة التي تتمتع بوضع تنموي أفضل من غزة، يبدون أكثر اعتدالا من سابقيهم، وإسلامويو عرب الداخل، الذين رغم ظروفهم الخاصة داخل إسرائيل إلا أنه قد أصابهم نصيب من التنمية الاقتصادية لدولة حديثة، فانعكس على مظاهرهم وسلوكهم وأفكارهم، هم أميل إلى السلام، لم نجد انتحاريا واحدا من عرب الداخل.

مثال آخر.. الخرطوم بعمرانها وشوارعها ونفاياتها ووسائل مواصلاتها، لا يمكن لها أن تنتج إسلاميين غير الموجودين اليوم. إن سافرت في واحد من الباصات العامة في السودان، قد تستوقفك عبارة مكتوبة على جانب الباص تقول «واقفين تحننوا، وراكبين تجننوا»، أي أنكم تثيرون الشفقة بهيئاتكم البائسة في انتظار الباص، وتثيرون الجنون من فوضى سلوككم عندما تستقلون الباص. وإذا عرفت أن الدولار يساوي آلاف الجنيهات السودانية، فلن تتردد كثيرا في القول بأن أفكار كثير من الاسلامويين تشبه قيمة عملات بلدانهم. وأعرف أنها نقطة خلافية، ولكن أطرحها للتأمل.

قد يقول قائل وماذا عن أبو حمزة المصري وعمر بكري وغيرهم ممن عاشوا في عواصم الغرب المتحضر؟ هنا أقول إن أي نظرية لا بد أن تكون لها استثناءات حتى تكون نظرية ولا تكون حقيقة. ومع ذلك، فهناك نوعان من إسلاميي الغرب، أولهما الذين ذهبوا إلى الغرب بعد أن ترعرعوا ونشأوا في بيئات متخلفة تشبعوا منها، والنوع الآخر هو من أمثال مسلمي البوسنة الذين فاجأونا بطريقة ملبسهم ومظهرهم المدني وكذلك أفكارهم السمحة، مثل كتابات عزت بكوفيتش، وأيضا من أمثال كات ستيفنس (يوسف إسلام) الذي يحاول اليوم أن يحبب الإسلام للغرب عن طريق الموسيقى.

في وسط مدينة القاهرة لا بد أن تلفت نظرك ظاهرة غياب إشارات المرور. الفوضى المرورية هي أحد أوجه الفوضى التي تعم كل جوانب الحياة هناك، بما فيها الحياة الفكرية.. عشوائية الخطاب الفكري القادم من القاهرة ليس حصرا على الإسلاميين، بل هي سمة يشترك فيها الخطاب العلماني والديني (الإسلامي والقبطي). عشوائية العمران القاهري تتجلى في أفضح صورها في إمبابة، حيث البيوت والمساجد الصغيرة والزوايا ومحلات (المتاجرة في الممنوع) كلها تشبه بعضها بعضا. وما نقرأه اليوم في بعض كتابات الإسلاميين التي قد يحسبها البعض متنورة، هي ظاهرة وقتية تعكس رغد العيش الصيفي لهؤلاء الكتاب من أصحاب الفيلل في الساحل الشمالي لمصر. متى ما عادوا شتاء إلى القاهرة عادت عشوائية الفكر.

ببساطة، المجتمعات الحية تختار من التاريخ الاسلامي النماذج المضيئة التى تلهمها، مثل تجربة المدينة أو بغداد أو الاندلس، هذه المدن الحضرية العامرة التي كانت منارات للإنسانية جمعاء، كان عمرانها يشبه فكرها استنارة وتنظيما. أما المجتمعات التى نخر فيها السوس فتختار من التاريخ الاسلامي النماذج المنغلقة في عصور الانحطاط. فنجد أن ماليزيا اليوم تبحث عن «الإسلام الحضاري» الذي يتبناه عبد الله بدوي، بينما تجتهد جماعات الجهاد في أفغانستان في تحطيم أي شيء يمت للحضارة بصلة.

وحتى نسد الطريق على المتحذلقين، أقول بأن الإسلام كعقيدة ثابت. أما مظاهره سلوكا وتعاملا وعمرانا فهي متغيرة. ولا يمكن لأحد منا أن ينكر على المسلمين في الأماكن المختلفة وعبر خمسة عشر قرنا إسلامهم، أيا كان نمط الحياة الذي اختاروه لأنفسهم. فمن البديهي أن تفسيرنا لما هو سلوك إسلامي، تزمتا أو انفتاحا، هو نتاج مجتمعاتنا وسبل معاشنا كما يرى شيخنا ابن خلدون. فالتفسير الذي يصلح لمكان لا يصلح لمكان آخر، ومعروف أن الإمام أبي حنيفة غير فتاواه بين القاهرة وبغداد، وعلل ذلك بأن ما يصلح للناس في بغداد لا يصلح للناس في القاهرة. وكثير من المسلمين يرى أن الاسلام دين، الحضارة هي الأصل فيه، أما التخلف والانغلاق فهو الشذوذ. هذا ربما ما قصده محمد عبده عند عودته من أوروبا عندما قال: «رأيت إسلاما بلا مسلمين وعندما عدت إلى مصر رأيت مسلمين بلا إسلام». فالإسلام كما فهمه الإمام هو مظاهر تدل عليه من نظافة وانضباط وحضارة وتقدم. لكن لدينا اليوم فئات مختلفة تريد أن تلصق تخلفها وجهلها وانغلاقها بالإسلام.

رغم أن مقولة الإسلامويين يشبهون بلدانهم ومدنهم ومعمارهم وشوارعهم ووسائل مواصلاتهم وربما عملاتهم تبدو مقولة صادمة، إلا أن جوهر الطرح هنا هو دعوة إلى نقاش جاد حول علاقة عمراننا ومدننا بأفكارنا وسلوكنا.