العالقون!

TT

هل تأخر موعد إقلاع طائرتكَ، مرّة، ساعات عدّة وأنت في المطار؟ هل اضطررت لقضاء يومين على أرض المطار بانتظار التوجّه إلى مقصدك؟ وهل كان لك قريب أو أخ في طائرة اختطفت وتمّ تهديد كلّ ركابها بالقتل؟ كيف شعرت بوطأة الساعات، والدقائق تتحوّل إلى دهور حين يتحوّل الصبر إلى يأس؟ أسأَلُ هذه الأسئلة لأُقارب، للقارئ، معاناة ما يزيد على ستة آلاف من الفلسطينيين المُحتجزين على «بوابة» رفح، التي تحوّلت كغيرها من مدن فلسطين إلى سجن محكم الإغلاق من قبل قوّات الاحتلال الإسرائيلي.

على «بوابة» رفح يمنع جنود إسرائيليون ضحاياهم من العرب من الوصول إلى مدنهم وقراهم وذلك منذ أسابيع، وقد توفّي منهم إلى حدّ الآن أكثر من ثلاثين شخصاً، وأطلق البعض عليهم اسم «العالقين». ولكني لم أقرأ مقالا واحدا في الإعلام عن معاناتهم، ولم تنشغل الفضائيات و«الأخبار العاجلة» بمتابعة مأساتهم الإنسانية، ولم يتوقّف أحد ليدقّ جرس الإنذار بأنّ بوابة السجن الكبير في غزّة والتي من المفترض أن يتحكم بها الاتحاد الأوروبي، كما كشف الإعلام منذ زمن، هي اليوم بأيدي قوات احتلال عنصرية تذيق المدنيين العُزّل أشدّ أصناف العذاب والإذلال دون أن يشكّل ذلك قلقاً لأحد من السياسيين لا في «العالم الحرّ» ولا في الدول العربية، ولم أرَ حتى خبراً تنشغل به وسائل الإعلام الحريصة، عادةً، على نقل أخبار ضحايا المحرقة بعد خمسين عاماً إلى القرّاء أو المشاهدين أو المستمعين. وحتى مصطلح «العالقين» هو مصطلح مغرض، فهم ليسوا عالقين وليس من سبب يمنعهم من دخول مدنهم وقراهم سوى قوات الاحتلال الإسرائيلية العسكرية التي احتجزت، بقوّة السلاح والدعم المطلق لجرائمها من قبل الدول الديمقراطية، آلاف الأطفال والنساء والرجال في ظروف لا تليق بالبشر، وحجبت وسائل الإعلام عنهم ليموتوا ممرغين بأقسى أنواع التعذيب العنصري المهين الذي واجهه بنو البشر.

ليس هناك من جدوى من الكتابة عن هؤلاء للإعلام الغربي لأنّ أحداً سوف لن ينشر شيئاً عن معاناتهم، كما لم ينشروا شيئاً عن المعاناة التي لا تطاق والتي يتعرّض لها سكان مدينة الخليل الفلسطينية منذ أكثر من ثلاثة أعوام دون أن ترتفع أصوات بوش وبلير وغيرهما من «الديمقراطيين» و«المتحضرين» الحريصين على «حقوق الإنسان» وحياته وكرامته لتملأ الدنيا صخباً حين يتعلّق الأمر بالإنسان الأبيض. هاتان قضيتان ملحّتان من ضمن عشرات القضايا التي قررّت أنني يجب أن أتناولها بعد أن قرأت مقال روبرت فيسك في جريدة «الإندبندنت» البريطانية والذي يحلّل فيه سبب استخدام الناس إعلام الانترنت بدلا من تقليب صفحات الجرائد (12 تموز 2007)، ومقالا آخر في «لوس آنجلس تايمز» بعنوان «من يصنع الأخبار المناسبة للطباعة» (25 تموز 2007). في المقال الأول يناقش فيسك صعوبة نشر مقالات تعبّر عن واقع الحال، ويؤكّد تعمّد محرري الجرائد تغيير المصطلحات بما يناسب مصلحة الحكومة أو خطّها في صياغة الخبر، حتى لمقالات صحافي مثل روبرت فيسك، ويمكن للعالم أن يتخيّل كيف تتمّ معاملة الآخرين! وفي المقال الثاني تناقش «لوس آنجلس تايمز» كيف تحوّلت الأخبار من نقل الخبر فعلا إلى تأكيد أخبار معينة تهمّ سلطات معيّنة، «حتى أنّ صفة خبر عاجل أصبحت تعطى لإلقاء القبض على شخص مشهور أو لمطاردة شبكة مجرمين من قبل الشرطة». ويعترف المقالان بتزايد عزوف القرّاء والمشاهدين عن وسائل الإعلام لأنّ هذه الوسائل لا تتناول المواضيع التي تعكس الواقع، أو التي تلقى صدى لدى المشاهدين والقرّاء، أو التي تعكس أموراً ذات صلة وثيقة بالمشاهدين والقرّاء. إذا كان هذا هو تحليل أكثر الجرائد البريطانية والأمريكية مصداقية لدى القارئ، فماذا نقول نحن العرب والذين تملأ أخبار منطقتنا وأبنائنا صحافة العالم ولكن من منظور الحاقد علينا وعلى قضايانا، وعلى تراثنا، وعلى ثقافتنا، وكيف يمكن أن نبدأ بتصحيح ما يكتب إذ أني أشعر كلما قرأت مقالا عن قضايا المنطقة التي أتابعها عن قرب، بأني بحاجة أن أعيد كتابة المقال للقارئ الغربي كي يتمكّن من تشكيل فكرة سليمة، وحقيقية عمّا يجري فعلا في منطقتنا.

وأتناول على سبيل المثال لا الحصر، مقالا كتبه سكوت ويلسون في جريدة «الواشنطن بوست» بعنوان «مدينة الخليل المقسّمة: اليأس المشترك، الفلسطينيون والمستوطنون اليهود في مدينة في الضفة الغربية يصارعون من أجل الوجود» («الواشنطن بوست» 26 تموز 2007) يعترف المقال بأن الجيش الإسرائيلي يقيم الحواجز ويبني الجدران «لحماية» سبعمائة مستوطن ضدّ 150 ألف فلسطيني، وأنّ هؤلاء المستوطنين بدأوا بالوصول بعد احتلال إسرائيل للضفة الغربية عام 1967. ويبرّر كاتب المقال للمستوطنين أسوأ التعديات على كرامة وممتلكات وحياة الفلسطينيين بالقول «أنّ المستوطنين مدفوعين باعتقاد ديني أنهم كانوا هناك منذ أربعة آلاف عام، وهم من أكثر الناس تصميماً آيديولوجياً للاحتفاظ بالأرض، والتوسع في الخليل، ولكنّ هذا الهدف التوسّعي يواجه حركات إسلامية وعلمانية فلسطينية مسلّحة حوّلت الخليل إلى أكثر الأماكن عنفاً أثناء الانتفاضة الفلسطينية». ويعترف المقال بأنّ «المراقبين الدوليين سجلوا اعتداءات شنيعة من قبل المستوطنين اليهود على العرب، وأنّ هؤلاء المستوطنين يُخرِجون السكان العرب الأصليين من بيوتهم ومحلاتهم التجارية بالقوة، ويحتلون البيوت والأسواق، ويصفون العرب بـ «المجرمين» ويقولون بأنّ التعايش مع العرب مستحيل» ولا يرى كاتب المقال غضاضة في «أنّ المستوطنين يطالبون بما يدعون أنّه كان لأجدادهم منذ أربعة آلاف عام»، بينما لا يستنكر قيام المستوطنين البيض من اليهود بقتل وتهجير السكان الأصليين الذين عاشوا على هذه الأرض لآلاف متواصلة من السنين، ولا يطرح سؤالا: ماذا سيحدث للعالم لو أراد الجميع إعادة العالم إلى ما كان عليه قبل أربعة آلاف عام؟ أو قبل ألفي عام؟ أو قبل خمسمائة عام؟! المقال مكتوب من وجهة نظر عنصرية تتعاطف مع جرائم المستوطنين الذين يقولون «باستحالة التعايش بين العرب واليهود» ويتوصّل الكاتب والقارئ إلى الاستنتاج الذي طبعاً هو أنه «على العرب أن يرحلوا» وهو التعبير العنصري التقليدي الصريح للمستوطنين البيض أينما حلّوا، وهو المبرّر لهم بشنّ حروب الإبادة البشرية ضدّ السكان الأصليين. والمقال الثاني هو «افتتاح قضية ضدّ مؤسسات خيرية إسلامية» بقلم روبرت بارنز («واشنطن بوست» 25 تموز 2007)، ويتحدث المقال عن مؤسسة الأرض المقدسة الخيرية والتي تتهمها إدارة بوش بتحويل أموال إلى حماس، والتي تصفها الولايات المتحدة بأنها منظمة إرهابية، وذلك بعد أن منعت إدارة بوش التعامل مع مؤسسة «بناء» والتي تبني البيوت التي دمّرتها إسرائيل في قصفها الوحشي على لبنان في الصيف الماضي. إنّ من تحاكمهم الولايات المتحدة يرسلون أموال الزكاة للأيتام والفقراء وأسر الشهداء الذين قتلتهم إسرائيل، وإلى المشافي حيث يعالج من فقدوا أجزاء من أجسادهم بسبب الاعتداءات الإسرائيلية عليهم. وقد أفادت محامية الدفاع نانسي هولاندر «بأنّ المؤسسة والرجال الذين يُقدّمون للمحاكمة لم يفعلوا شيئاً سوى التبرّع بأموال لمؤسسات خيرية، وأنّ مؤسسة الأرض المقدسة لا علاقة لها بالسياسة، بل تركّز على مساعدة الأطفال المحتاجين» والمفارقة هي أن التهم كلها كما يقول المقال نفسه مقدّمة من قبل «الأجهزة الاستخباراتية الإسرائيلية، وتحتوي على محادثات هاتفية ومعلومات مترجمة من العربية إلى العبرية ومن ثمّ إلى الانكليزية» وقد قال القاضي جو فيش أنه «سيسمح لضابطَين من المخابرات الإسرائيلية أن يشهدا ضدّ هذه المؤسسة»! وحتى قبل صدور الحكم، فإنّ قرار الإغلاق لهذه المؤسسات منذ عام 2001 كان له أسوأ الأثر على ضحايا جرائم الجيش الإسرائيلي من الفلسطينيين الذين هم بأمسّ الحاجة للمساعدة، بينما تفيد المصادر الإسرائيلية أنّ عمل الحكومة الأمريكية ساعد في عدم إيصال أموال إلى «الإرهابيين» معتبرين طبعاً أنّ العرب جميعاً إرهابيون.

وبالتزامن مع هذه الإجراءات ومع الأحداث المؤلمة في رفح والخليل وفلسطين ومع قوانين أمريكية تدرج عرباً ومنظمات عربية في قائمة الإرهاب كي تتخذ أسوأ الإجراءات العنصرية بحقّهم، فإنّ عضو الكونغرس الجمهوري نورم كولمن، المبعوث إلى الأمم المتحدة، يعمل على «قطع تمويل الولايات المتحدة لمجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة» لأنّ هذا المجلس قد «ركّز في العام الأخير على انتقاد إسرائيل»! هل أصبحت الصورة واضحة الآن! الإعلام «الحرّ» في الغرب حرٌّ في حجب، وعدم نشر أيّ خبر يفضح جرائم الاحتلال العنصرية الإسرائيلية ضدّ العرب في فلسطين، والجولان، ولبنان. في حين يصدر بوش قوائم تتهم كلّ من يقاوم الاحتلال، والإذلال، بالإرهاب، ويثبتها بقرارات تغلق أيّ مؤسسة خيرية تحاول مساعدة ضحايا الاحتلال الدموي في الأراضي المحتلة. وفي الوقت ذاته يتمّ ابتزاز مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة لمنع توجيه أيّ انتقاد لنظام عنصري بغيض.

إذاً، هل عرفتم من هم «العالقون» اليوم في هذا العالم الذي تسيطر عليه الدول «الديمقراطية المتحضرة» بقوة جيوش الاحتلال، وتهم الإرهاب، والسجون السرّية؟! «العالقون» في رفح وفلسطين والعراق وجنوب لبنان والجولان هم العرب كلّهم، وهم كلّ البشر التوّاقون إلى معرفة الحقيقة وممارسة دورهم الإنساني في الدفاع عن الحريّة، ولكنهم غير القادرين على فعل ذلك بسبب تشويه الحقيقة، وتزوير الوقائع، وإساءة استخدام اللغة، وتلفيق المصطلح للخداع، أهي بداية فقدان الثقة بين صانع الخبر وبين موضوع الخبر وهدفه؟