برافو.. نيكولا ساركوزي!

TT

لا يزال الرئيس الفرنسي الجديد يحقق النجاحات تلو النجاحات منذ ان انتخب قبل شهرين وحتى الآن. وقد استطاع ببراعته وألمعيته ان يُنسي الفرنسيين انه كان يوجد رئيس قبله وانه حكم فرنسا لعقود طويلة ويدعى: جاك شيراك! فمن يتذكر شيراك الآن؟ لولا اني أقرأ الصحف يوميا لما عرفت انه يمضي عطلته الصيفية في مدينة «بيارتيز» عاصمة بلاد الباسكيين جنوب غربي فرنسا. ورأيته في الصورة يمشي على الكورنيش مع زوجته وعلى وجهه علائم التجهم وكأنه ملك مخلوع عن عرشه.. فهل سينتقم منه ساركوزي يا ترى؟ وهل هو خائف من المحاسبة على ما ارتكبه من تجاوزات خلال عهده الطويل؟

يبدو أن الأمور لا تبشر بالخير. فرئيس وزرائه دو فيليبان اصبح الآن متهما رسميا من قبل القضاء في قضية خطيرة. وهذا يعني انهم سيصلون الى شيراك من خلال دو فيليبان لأنهم لا يستطيعون ان ينالوا منه مباشرة. ولكن مجرد انهم استجوبوه الاسبوع الماضي لمدة اربع ساعات يعني انهم وصلوا اليه في الواقع، بل وأهانوه.. وهذا شيء مزعج في الواقع لأن منصب رئيس الجمهورية ينبغي ان يظل فوق هذا المستوى.. فلم يحصل في تاريخ الجمهورية الفرنسية ان مثل رئيس سابق أمام قاضي التحقيق أبدا، لا جيسكار ولا ميتران ولا جورج بومبيدو، تعرضوا لسؤال واحد على ما فعلوه او لم يفعلوه، وبالتالي فهيبتهم ظلت محفوظة بصفتهم رؤساء سابقين للجمهورية.. بالطبع بومبيدو مات اثناء الرئاسة وبالتالي فلا ينطبق عليه الوضع.

وحده شيراك شذّ عن القاعدة واضطر الى الرد على استجواب القاضي له وشكل بذلك سابقة في التاريخ الفرنسي. فهل يستطيع «بلع» هذه الاهانة وهو الفخور بنفسه الى حد الغرور؟ وإذا ما استمروا في ملاحقته من خلال أقرب مقربيه، دو فيليبان، او من خلال قضايا أخرى تخص الثراء غير المشروع واستغلال المناصب في المحسوبيات وتوزيع الرواتب المجانية على المقربين، فهل ستصمد صحته يا ترى؟ اصبح السؤال مطروحا الآن. واعتقد شخصيا ان من الخطأ اهانته اكثر مما يجب..

وفي ذات الوقت ما الذي يفعله ساركوزي؟

انه يحقق نجاحا ديبلوماسيا باهرا في ليبيا ويحل مشكلة مستعصية منذ سنوات عديدة، بل ويساهم في عودة هذا البلد العربي الى ساحة الجماعة الدولية. والشيء المدهش ايضا هو انتصار العقلانية السياسية في ليبيا على الآيديولوجيا الغوغائية التي سيطرت طيلة سنوات وسنوات حتى اعتقدنا انها اصبحت حقيقة مطلقة لا تناقَش ولا تمَس. والواقع انه لو لم يحصل هذا التطور الايجابي لتعرضت ليبيا لنفس المصير الاسود الذي اصاب صدام حسين والعراق. ومعلوم ان هذا الاخير ركب رأسه ولم يعرف كيف يتطور ويتعامل مع المجتمع الدولي فكانت النتيجة هي الكارثة له ولعائلته وللبلد ككل.

وهذا أكبر مثل في وقتنا الحاضر على مدى أهمية العقلانية السياسية وضرورتها وفائدتها التي لا ينكرها إلا الجهلة، وما أكثرهم في العالم العربي للأسف الشديد. فهل ستنتهي ثقافة الشعارات والعنتريات الفارغة يا ترى وندخل في عهد جديد يتميز بالمسؤولية السياسية والحسابات الدقيقة والفكر العلمي؟ من السابق لأوانه الجواب على هذا السؤال وإنْ كانت حركة التاريخ تمشي في هذا الاتجاه. ولكن لكي تتغير العقليات فعلا في العالم العربي ينبغي ايضا ان نعيد للفكر الفلسفي دوره الرائد على كافة الصعد التعليمية في المدارس الإعدادية والثانوية وحتى الجامعة. ينبغي ان ينتشر الفكر العقلاني النقدي في العالم العربي والإسلامي ككل لكي يحل محل الآيديولوجيات الرثة المهترئة التي حكمتنا طيلة الخمسين سنة الماضية.

لا حل ولا خلاص إلا بالفكر العلمي والفلسفي الذي ينبغي ان يشتبك في معركة ضروس مع الآيديولوجيا القومجية ـ الأصولية التي تحتل الشارع العربي حاليا. نحن بحاجة الى مراجعة شاملة لفكرنا وسلوكنا السابق. اني لا أنكر القومية في المطلق ولا الأصولية في المطلق، ولكن أنكر التعصب الأعمى او الانغلاق القومي ـ الأصولي.

لكن لنعد الى الرئيس الفرنسي الجديد ولنبد إعجابنا بتصريحاته في السنغال، حيث أدان بصريح العبارة فترة الاستعمار البائدة. وقال بالحرف الواحد، وقد أثلج كلامه صدري، «لم آت الى هنا لكي أنكر الأخطاء ولا الجرائم.. لأنه حصلت أخطاء وجرائم في زمن الاستعمار. نعم لقد كان الاستعمار خطيئة كبرى وجريمة. والمتاجرة بالعبيد، أي بالأفارقة السود كانت أفدح من ذلك: لقد كانت جريمة ضد الانسانية كلها.

برافو ساركوزي! هذا ما كنا ننتظره منك. أخيرا تجرأ قائد غربي مهم على إدانة المرحلة الاستعمارية بأسرها بدون لبس او غموض. صحيح انه اضاف قائلا: ولكن لا يمكن ان نحمّل الأجيال الحالية مسؤولية تلك الجريمة التي ارتكبتها الاجيال السابقة.

وهذا صحيح. نحن لا نطلب الانتقام من الفرنسي او الانجليزي الحالي. نحن نطالب بالاعتراف فقط. ويمكن القول إن الأرمن يفعلون نفس الشيء مع الاتراك، فهم لا يطالبون بالانتقام من الاتراك الحاليين وإنما فقط أن يعترفوا بما فعله أجدادهم بهم عام 1915. وسوف يعترفون يوما ما.

كل ظالم ينبغي ان يعترف بالظلم الذي ارتكبته يداه لكي ترتاح نفسية المظلوم المضطهد. هذا قانون سيكولوجي معروف منذ أيام فرويد او ربما قبله. فالجزائري الآن يستطيع ان يرتاح نفسيا عندما يسمع رئيس فرنسا وهو يدين جرائم الاستعمار او يعتبر الاستعمار جريمة لا تغتفر. ولكن ربما كان الجزائري بحاجة الى اعتراف أقوى أو خاص به شخصيا لأن الاستعمار الفرنسي هناك كان استيطانيا وهو أبشع انواع الاستعمار.

مهما يكن من أمر فإن وجه فرنسا الجديد اصبح اكثر اشراقا بعد تصريحات الرئيس ساركوزي. نقول ذلك، وبخاصة ان البرلمان الفرنسي في عهد شيراك كان قد صوت على قانون يعترف بالميزات الايجابية للاستعمار!! ثم تراجع عنه لاحقا بعد أن صدم كبار المؤرخين والمثقفين الفرنسيين.

هذا ناهيك من مثقفي الجزائر وسواهم. وقد أثار عندئذ عاصفة من الاحتجاجات الغاضبة. فاضطر شيراك الى إلغائه، وحسناً فعل.