إسلاميو تركيا أذكياء وبراغماتيون

TT

أحد عوامل النجاح الباهر لحزب العدالة الإسلامي التركي، إلى جانب تأييد الشعب التركي لطروحاته الإسلامية، أنه طبق استراتيجيته الاقتصادية التي اختصرها المثل العربي الشهير «إملأ البطون تستحي العيون»، فملأ الحزب بطون الأتراك بنهضة اقتصادية لافتة بعد عثرات وكبوات متعاقبة منذ أيام حكم الأحزاب العلمانية المترهلة، فاستحت عيون الأتراك وصوتوا له، بل استحت عيون الأوروبيين والأمريكان فباركوا فوز هذا الحزب الإسلامي الأعجوبة، إيمانا منهم بأن حكومة تركية ذات مسحة إسلامية تنجح في إدارة دفة البلاد وتدفع بعجلة الاقتصاد إلى الأمام، مما يعني تقليل الاعتماد التركي على المساعدات الأوروبية وتقليص نسبة النزوح التركي إلى الدول الغربية، بحثا عن فرص العمل، أفضل من أحزاب علمانية متطرفة تعيش على إقصائية أثارت عليهم حنق الشارع التركي، ولم تقدم حلولا ناجعة للاقتصاد التركي المريض.

ما أشار إليه عدد من الليبراليين العرب بأن إسلاميي تركيا أكثر اعتدالا وتسامحا وبراغماتية من نظرائهم العرب في الجملة صحيح، فقياديو حزب العدالة الإسلامي لم يستخدموا ضد خصومهم من التيارات الأخرى ـ وهم في نشوة انتصارهم الساحق ـ عبارات الإقصاء ونبرات التحدي وكيل الاتهامات ذات الطابع الديني، ولم يستغلوا انتصارهم الباهر بحصولهم على الأغلبية البرلمانية في إطلاق التهديدات بإحداث تغييرات انقلابية وجذرية تقتلع الأوضاع من أساساتها كما كانت – مثلا ـ نبرة الجبهة الإسلامية للإنقاذ، إبان انتصارهم الساحق في المراحل الأولية للانتخابات الجزائرية في أوائل التسعينات.

ثم إن حزب العدالة الإسلامي أخذ بمبدأ إيجاد الحلول والبدائل المحافظة بدل الهجوم على التوجهات المتحررة، يعني بدلا من أن يلعن ظلام الشواطئ المختلطة والمنتجعات المتحررة والفنادق المنفلتة أوقد عددا من شمعات المشاريع الإسلامية المحافظة، ومن خلال البوابة القانونية، فأنشأ منتجعات سياحية غير مختلطة وفنادق لا تقدم الخمر، ولأن أغلبية الشعب التركي ميال بفطرته إلى المحافظة والتدين فقد لاقت هذه المشاريع التجارية المحافظة رواجا ونجاحا اقتصاديا، فضرب الإسلاميون الأتراك عصفورين، أحدهما اقتصادي والثاني آيديولوجي، بحجر واحد من دون أن يثيروا غبارا أو يحدثوا جلبة، الأتراك عينهم على العنب وليس الناطور.

ثم إن حزب العدالة التركي لم يتحرش بمنطقتين محظورتين، الأولى المؤسسة العسكرية التركية التي تحكم بقبضتها الحديدية على مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية في تركيا، والثانية أتاتورك والعلمانية المهيمنة التي تنعم بحماية العسكر. أتاتورك والعسكر بابان سدهما حزب العدالة فاستراح من رياح تغييره أو تطييره، هذا الأسلوب البراغماتي المعقد لم توفق له بعض التوجهات الإسلامية في البلاد العربية، الأمر الآخر القدرة الفائقة لحزب العدالة في تركيا على تغيير تكتيكه وتبديل استراتيجياته وحسن قراءته للأحداث والمستجدات، وإن اقتضت الضرورة استبدال الثوب القديم (حزب أربكان) بثوب جديد (العدالة) ولو غضبت القيادة التاريخية، وهذا ما أخفق فيه ايضا نظراؤهم العرب!

في مصر مثلا سرى قبل سنوات نوع من التململ والضجر في صفوف شباب حركة «الإخوان المسلمون» العتيقة، وذلك بسبب بطء عملية الإصلاح الداخلي ومقاومة تجديد الدماء، قادته كوادر شابة، فأنشأوا «حزب الوسط»، إلا أن القيادات الإخوانية قاومت هذا التململ فوأدت عملية الإصلاح والتطوير في مهدها، في المقابل التركي سرى نفس التململ من الأسلوب العتيق الذي كان ينهجه الدكتور نجم الدين أربكان، فحققت حركة التصحيح نجاحا باهرا بقيادة الرمزين الإصلاحيين أردوغان وغول، وهما من تلامذة الزعيم الإسلامي التاريخي أربكان.

المؤسف أن زعيما كبيرا في قامة أربكان لم ترق له النجاحات الكبيرة التي حققها تلامذته وهذا من حقه، لكن اللافت والمؤسف أنه وجه لحزب العدالة اتهامات خطيرة منها العمالة للقوى الإمبريالية والصهيونية العالمية والأخرى إغراق البلاد في ديون ثقيلة يصعب تسديدها، وكلتا التهمتين لا يصدقهما الواقع، هذا الوصف القاسي يدل على أن عملية الإصلاح الأردوغانية الغولية الناجحة سبقها مخاض عسير مؤلم، لكن لا بد مما ليس منه بد، وها هي حركة التصحيح تقطف ثمارا اقتصادية وسياسية يانعة، ولو فرط الإصلاحيون الأتراك في فرص التغيير بحجة تقدير الزعامات التاريخية، كما فعل نظراؤهم العرب، لما حقق حزب العدالة هذه النجاحات. 

[email protected]