«العرقنة».. مصيراً محتوماً للشرق الأوسط

TT

قرأت قبل يومين في إحدى الصحف مقالة مفيدة عن خطط صهيونية عمرها بضعة عقود من الزمن، لتقسيم منطقة المشرق العربي.

الحقيقةً لا جديد في هذا الكلام، ففي العام الماضي نُشرت خرائط أميركية، قيل أنها تشكل تصوّراً جدياً لما يجب أن تكون عليه كيانات عموم منطقة الشرق الأوسط (بما فيها الخليج) وشمال إفريقيا.

بل ان زرع هاجس التقسيم في أذهان مواطني عدد من كيانات المنطقة التي تعيش ثقافاتها السياسية، حالة مزمنة من «الفصام» المذهبي والعرقي تعود إلى ما قبل تبلور الكيانات الحالية بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك بعدما كانت المعالم الأولية لهذه الحالة قد أخذت تظهر مع انهيار السلطنة العثمانية بنهاية الحرب العالمية الأولى.

أنا اعتقد أن ثمة حقيقتين ينبغي أخذهما في الاعتبار لدى تفحّص مخططات التقسيم المرسومة والموعودة:

الأولى أن التقسيم ليس خياراً بقدر ما هو اضطرار. وعليه فتنفيذ هذه المخططات، يحتاج من مخططيه ومنفذيه «سيناريو» يقوم على إيجاد المبرّرات لمواقف معينة تليها سلسلة تداعيات تجعل الغاية التقسيمية «أهون الشرور» لدى مواطني الكيانات المنوي تقسيمها وتفتيتها.

الثانية أن هذا «السيناريو» يتضمن مناورات وأكاذيب وتمويهاً تضليلياً دقيق الإعداد يبدو فيه أدوات التنفيذ في «طبخة» التقسيم وكأنهم هم الطليعة الشجاعة المكافحة ضده والمقاومة له.

عنصر كسب الوقت ـ أو الاستفادة من «مرور الزمن» ـ جزء أساسي من العمل السياسي. كذلك من الاعتبارات المهمة الأخرى عند القوى العالمية والإقليمية النافذة التكلفة المطلوب دفعها لقاء إنجاز سياسة ما، وشكل التضحية بهذا اللاعب أو ذاك وفق حسابات التكلفة.

في منطقة الشرق الأوسط، وبالذات شرق المتوسط والخليج، حيث نسمع أكثر فأكثر عن «مؤامرات» تستهدف إعادة رسم الخرائط، قلّما بدت الصورة العامة على ما هي عليه اليوم من قتامة وارتباك.

فثمة جهة تعتبر أن مفهوم «الشرق الأوسط الجديد أو الكبير» الذي بشّر به غلاة «الليكوديين» والإنجيليين و«المحافظين الجدد» في واشنطن يستوجب بناء جبهة متراصّة لمواجهته تتجاوز الهويات الطائفية. وبالفعل، يقوم الآن محور يزعم أنه يخوض معركة التصدّي لهذه المؤامرة التي قد تستخدم التقسيم (الناجم عن إعادة رسم الخرائط) وسيلةً للسيطرة على المنطقة ومقدّراتها وثرواتها.. خدمةً للتوسع الإسرائيلي والهيمنة الأميركية.

وفي المقابل، نرى جهة ثانية ترى أن مؤامرة «الشرق الأوسط الجديد» مشروع إقليمي مفتوح أمام من يتطوع للانخراط فيه لقاء الثمن المقبول. وبالتالي، وفقاً لفهم «براغماتية» الغرب، ينبغي تذكّر أنه «لا وجود لأصدقاء دائمين ولا لأعداء دائمين بل لمصالح دائمة».. كما قال ونستون تشرتشل، وقبله اللورد بالمرستون.

على هذا الأساس، واستناداً إلى معطيات الحاضر ـ والماضي القريب أيضاً ـ يمكن القول إن الشعارات الملتهبة ثوريةً ونضالاً لا تعني شيئاً في حسابات المقايضة المصلحية. وبالمناسبة لا أميركا (وحليفتها إسرائيل).. ولا القوى التي تدّعي الراديكالية و«الممانعة» تصدّق ما يذاع ويشاع مما تقوله ويُقال لها. والجانبان يعرفان جيداً شروط اللعبة بما فيها عنصرا التكلفة و«مرور الزمن»، ويعرفان أيضاً وجود حاجة للتضحية بلاعب ما تكون التضحية به مقدمة لصفقة إقليمية قابلة مرحلياً للحياة.

هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 جعلت «الإسلام السنّي السياسي» الضحية المحتملة الأكثر جاذبية للدوائر الغربية، ولا سيما لواشنطن وتل أبيب. وبناء عليه، وبفضل براعة «الشيعية السياسية» في لعب أوراقها الإقليمية، بما فيها الدعم المستتر لأبشع وجوه «الإسلام السنّي السياسي»، تعزّزت قناعة كانت بذورها موجودة منذ بعض الوقت في أذهان أصحاب مخططات التقسيم الغربية بإمكانية التعايش ـ حتى بالنسبة لإسرائيل ـ مع نظام إقليمي تقوده «الشيعية السياسية» الذكية الواقعية، في حين يستحيل ذلك مع «الإسلام السنّي السياسي».. سواء كان اسمه «قاعديا» أو زرقاويا» أو «تحريريا» أو تكفيريا».. أو «فتح إسلامي».

وحقاً، يجب الإقرار بأن «الشيعية السياسية» حققت اختراقين مهمّين جداً، يمكن أن يرجّحا كفتها في دوائر القرار الغربية، بينما تكسب طهران معركة «مرور الزمن» بالنسبة لقدراتها النووية.

الاختراق الأول، هو أنها استطاعت في وجه أخطاء واشنطن الفظيعة في العراق وفلسطين، وبفضل رفعها شعارات من نوع «وحدة المسلمين»، إيجاد أرضية تأييد واسع لها ضمن الأغلبية السنيّة في العديد من دول العالمين العربي والإسلامي. ومعلوم اليوم أن أموال «الشيعية السياسية» الإيرانية، تحديدا، تغذي لفيفاً من الجماعات الراديكالية السنيّة وترعاها وتحرّكها في عدد من الدول العربية المحورية.

والاختراق الثاني، هو أن الوجه المعتدل ظاهرياً لـ«الشيعية السياسية» بالمقارنة مع «التكفيريين» و«القاعديين» السنّة، وجد له غطاءً سياسياً ثميناً في أوساط ما تبقّى من المسيحيين العرب في دول كسورية ولبنان والعراق. وبالتالي، إذا كان للحسابات الغربية أخذ مصالح هؤلاء المسيحيين بعين الاعتبار، سيجد رافعو لواء «حماية مسيحيي المشرق» في عواصم القرار الغربية حجّة منطقية قوية في عقد صفقة «تحالف وتفويض» إقليمية مع «الشيعية السياسية» تشمل ضمن ما تشمله حماية مصالح المسيحيين.

المشكلة الوحيدة هنا، أن صيغة من هذا النوع، تبقى مؤقتة مهما طال الزمن.

فالمسلمون السنّة سيظلّون يشكلون الأغلبية السكانية للشرق الأوسط، سواءً حققت طهران في الوقت المناسب حلمها النووي أم عجزت عن ذلك. ثم أن عقد صفقة دولية ـ إقليمية على حساب السنّة وفوق رؤوسهم بغرض تهمشيهم قد يؤدي إلى تعميق مرارة «التكفيريين» وزيادة رايكالية جماهير سنيّة عريضة ليست لهذه اللحظة من تيار «القاعدة» ومن لف لفه. واستطراداً، لا يعود هناك ضمانات بأن تنجح مظلة «الشيعية السياسية» في «وقاية» مسيحيي المنطقة إلى ما لا نهاية.

عند هذه النقطة، أي عندما تتفجّر الفتنة المذهبية والدينية من جديد، سيصبح التقسيم الملاذ الأخير والخيار الوحيد للأقليات المذهبية والدينية والعرقية.

مخطّطو التقسيم يفهمون هذه الاحتمالات، لكنهم سيحاولون مصلحياً ـ ونفطياً ـ الاستفادة قدر المستطاع من «مرور الزمن»َ، وسيلعبون لعبتهم بتقنيّة «التحكم عن بعد» (الريموت كونترول).. بخلاف ما فعله جورج بوش «الابن» في العراق. أما أبناء المنطقة المساكين فحسبهم التفاهم على «خطوط الفصل» وتحاشي مآسي التصفية الدموية التي يخشى أن ترافق عمليتي التبادل السكني ورسم الخرائط، كما حصل في شبه القارة الهندية عام 1947.