خطاب رثاء لأخي عبد الله الفيصل

TT

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير ما يخلف الرجل من بعده ثلاث: ولد صالح يدعو له، وصدقة تجري يبلغه أجرها، وعلم يُعمل به من بعده).

سيدي وأخي الحبيب، عبد الله

تركتنا إلى المقام الأعلى دار البقاء، مودّعاً دار الفناء التي شغلت فيها حيزاً مرموقاً من العطاء والإنجاز، مخلفاً وراءك ذرية صالحة وصدقة جارية وعلماً طيباً، بل ومثلا وعبراً إنسانيةًً يتأسّى بها بنو البشر، وبخاصة نحن، من كان لهم شرف التواصل معك والتمتع بمشاهدة جزء يسير من وهج حياتك الذي غطى السياسة والأدب والأخلاق. ولن أحاول في رسالتي هذه استذكار كل ما فعلت وقلت وأنجزت؛ لأن ذلك يتطلب التنقيب والبحث والغوص في بحار مناقبك العميقة، ومن ثم تُسطّر آلاف الكلمات والمجلدات لسبر أغوار مجمل أفعالك. ولذلك فمعذرةً أخي إن تركتُ ذلك المجهود لمن هم متخصصون في الكتابة عن أساطين مثلك من عمالقة الإنجاز الإنساني.

ولما كان خير الكلام ما قل ودل، فسوف أبدأ بتذكر ذلك الموقف الأخوي والعفوي الذي بادرتني به قبل أن يُسكتك المرض عندما التفتّ إليّ وقلت لي بكل بساطة:

«تراني أحبك».

مباشرتك التعبير عن شعورك سمةٌ أولى في مكون شخصيتك، فلقد عُرفتَ بصراحتك، وبسرعة انفراج أساريرك، وبطلبك الحق دون خوف لومة لائم. وكان مجلسك مليئاً بالزوّار لأنك كريم، فاتح بابك لكل من أراد زيارتك ومشاركتك طعامك.

وما أروع حديثك وحكاياتك، فكنت راوياً مبدعاً وممتعاً لا يملّ من يستمع إليك، بل ينشد المزيد من معينك القصصي الذي استمددته ممن جالست من جهابذة الوطن رحمهم الله، إذ كان لك مع كل واحدٍ منهم رواية وطرفة؛ من جدك عبد الرحمن إلى جدك عبد العزيز وعم أبيك محمد، ناهيك عن أبيك وأعمامك وأخوال أبيك آل الشيخ وأخوالك السدارى وغيرهم من قيادات البلاد الأدبية والتجارية والشعبية.

كانت بداية حياتك حزناً بفقد والدتك، ولكن عوضت الخير إذ أبى جدك

عبد العزيز، رحمه الله، إلا أن يرعاك بنفسه، فوضعك في كنف زوجته حصة السديري التي كانت خالتك أيضا؛ فنشأت ورفاقك، لا بل إخوانك، وهم أعمامك وعماتك آل فهد وأخوهم من أمهم عبد الله بن محمد «رحمه الله».

ومِن حب عبد العزيز لك سماك «ربع الدنيا» وبقيت طوال حياته من أقرب المقربين له.

وكان ـ رحمه الله ـ معروفاً بفراسته في الرجال؛ فكنت واحداً من أولئك الذين يركن لهم عبد العزيز ويأخذ برأيهم، وقبل أن يستوزرك على وزارتي الداخلية والصحة اللتين أسستهما وأوليتهما بوادر الإدارة والتوظيف، عمل على صقلك بتنويبك لنائبه في الحجاز، فكنت خير معين لأبيك الذي اعتمد ـ بعد الله ـ عليك لتسيير دفة الأمور في الديار المقدسة.

وعندما نبغت في الشعر أصبحت دارك مدرسةً للشعر والأدب يرودها الأدباء والشعراء والعلماء من أبناء وطنك، ومن كل حدب وصوب من أمة الإسلام؛ لينهلوا من مجلسك أحلى الكلام وأسمى العلام. وبقدر ما كنت تدلي بدلوك كنت تصغي إلى سجال الآخرين، فرادوا منارتك واستلهموا من إلهامك.

ثم أسست الحركة الرياضية ووضعت أول نظام لدوري كرة القدم وكأس الملك. وعندما توفي جدك، رحمه الله، أبقاك عمك سعود، رحمه الله، في أول مجلس للوزراء يشكل في عهده، وبقيت في هذا المنصب إلى أن انتقلت من خدمة مليكك ووطنك، موظفاً حكومياً، إلى خدمتهما في القطاع الخاص. وكما برّزت في الخدمة الحكومية كنت مبرّزاً في التجارة، وكان لك ذلك الموقف الصريح مع أبيك عندما ذهبت إليه لتأخذ مباركته في عملك الجديد، فقلت له: إنك تعلم أنه ملك وحاكم، وكما يجب عليه أن ينصف كل المواطنين ويعدل معهم فلا بد أن يعدل معك وينصفك، لأنك مواطن وإن كنت ابنه، لك ما لغيرك وعليك ما عليهم. فراجت تجارتك واستمر إغداقك على المعوزين والمستضعفين، فكان الواحد منهم إن أصابه عوز أو فاقة أو مظلمةً قمت له مسرعاً تمد له يد العون والنصرة. فكم من تاجرٍ انكسرت تجارته أقرضته مالا أو أعطيته وكالةً ليسترزق بها، وكم من بيت يبيت أهله مستورين بهبةٍ منك لوجه الله، وكثيراً لا يعلم أهل البيت أنك أنت المعين، بعد الله، فحياتك كلها عطاء.

وما يلي، يا أخي، أبيات رسخت في ذهني من شعرك الفياض، أذكرها هنا لكي أستعذب عذوبتها وأستمتع بقراءة كلماتها وأهيم في صورها الحلوة، وأبكي على من رثيت عزيزاً عليك وعليّ، وأعتبر بنصائحك وأنتشي بمفاخرك وأستوحي من إيمانك بالله ما يقوي إيماني.

أبكيتني حين قلت في رثاء أبيك ـ رحمه الله ـ :

«لو مات نصف الناس ماسايْلٍ سالْ - ما هُمْ فََِقِيدهْ انتََهْ اللّي فِقِيدَهْ»

***

«شيخ الشيوخ اللي بنى فوق الأول - مجدٍ حصونه عالياتٍ، منيعه»

***

«إنه يومُ فيصلٍ خرّ فيه الـ - طّودُ للهِ ساجداً، غير صاحِ»

***

وهذا بيت قلته في قصيدتك «قادة فكر» تصف به جدك في خير ما وصف به فقلت:

«جامع الخير والبطولة والإقـ - ام بالخُلْقْ والفؤاد الرحيم»

***

ومن أروع ما قلت في أبيك وجدك هذه الأبيات:

«عشت لي يا فيصل الحق الأبي - والداً يختال فيه نسبي»

***

«كان لي عذري بأني فَنَنٌ - لأصول الفخر جدي وأبي»

«جدي الباني على ضوء الهدى - وأبي المكمل صرح الحسب»

وها أنت تنصح بكرك، خالد، رحمه الله، فتقول في بيتين من قصيدتك «شقاي خالد»:

«شقاي يا خالد على المال يغنيك - يغنيك عن حاجة قليل المروه»

***

«وبيك تنفع به رفيقك وأهاليك - لا تلحق الحاجه قريبٍ دنوّه»

***

وها هي ابنتك، سلطانة، التي طال انتظارك لولادتها، تقرأ جميل إنشادك لها:

«يا زهرةً لي نضيره - ونجمةً لي منيره»

«أضأت بالنور عمري - أيا ابنةً لي صغيره»

***

ولم تنْسَ شباب بلادك فقلت فيهم:

«مرحي فقد وضح الصواب - وهفا إلى المجد الشباب»

***

« المجد يُبْنى بالعلو - م تهز عالمنا العجاب»

***

«ولننطلق في عزمنا - مثل انطلاقات الشهاب»

***

وكنت ممجداً لانتصارات حرب رمضان المجيدة فقلت:

«ويوم تشرين قام الحق مرتفعاً - على الذرى وخصوم الحق في صبب»

«دكت حصون بني صهيون وانطمرت - في خط بارليف أكداس من الكذب»

***

«في أرض سيناء منها ساهدٌ عَجَبٌ - وكم تحدثت الجولان بالعجب»

***

وأما ما قلته في الغزل فلقد أطراه النقاد لعذوبة شدوك وسلاسة قولك وصدق عاطفتك، واخترت ثلاثة أبيات ممّا كتبته في الغزل لأنني لو كنت شاعراً لتمنيت أن أكون قائلها:

«يا ريتني في الظفاير - شعره على رمش عينك»

***

«أنا والحب توأمان خلقنا - وتلانا في العشق كل حبيب»

***

«إن عين المحب تعمى عن السو - ء وقد تحسب الجفاء التئاما»

***

وأبدعت حين ناجيت ربك قائلا:

«إلهي يا ربّاً عبدتك طاعة - وتقوىً وإيماناً بأنك تُعْبد»

«إليك فؤادي خاشعاً وجوارحي - إذا سرت أو وقَّفت أو أتهجد»

«وما دمعت عيناي إلا توسلا - وشكراً لنعماك التي لا تحدّد»

***

وقبل أن أودعك أرجو أن تعذرني لأنني لم أستغل كل فرصة سنحت لأكون بجانبك، فهنيئاً لي أنني عرفتك، وحمداً لله أنك كنت دائماً ذلك الرجل الذي أعتز بالقول إنني أخوك.