تأملات في الطبِّ البلغاري للأوجاع الليبية

TT

استل الجزار سكينه، وراح يطعن القاضي عادل العلواني، وتركه أمام بيته وأطفاله الباكين جثة هامدة. ذهلت سورية الأربعينات لهول الجريمة. ثار القضاة والمحامون إزاء الاعتداء على حرمة القضاء. فقد كانت هناك سلطة قضائية مستقلة. كان هناك قضاة ذوو ضمير لا تنال من يقظته ونزاهته وساطة أو تهديد أو إغراء يتجاوز القانون.

قبض على الجزار. قدم إلى القضاء، وصدر الحكم بإعدامه (لي رأي مختلف في الإعدام)، لكن وجهاء حيه الشعبي في دمشق حاولوا التدخل لدى نظام الرئيس شكري القوتلي لتخفيف الحكم. وكان القوتلي رجلا فاضلا ومناضلا وطنيا، لكنه لم يكن مثقفا. كان يظن أن زعماء الأحياء هم مصدر القوة السياسية في بلد قطع شوطا بعيدا عن هذا التصور.

القضاء ضمير الأمة. القضاء السلطة الثالثة في الدولة الحديثة. الدستور المعاصر كفل لها استقلالية تامة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية. ثار المحامون والقضاة مرة أخرى إزاء محاولات السلطة التنفيذية التدخل والتأثير على السلطة القضائية. وكان الفضل للنائب المعارض أكرم الحوراني. فقد هدد بإثارة القضية في مجلس النواب. وبالفعل، تهيب النظام السياسي، وتم تنفيذ حكم الإعدام بعدما أيدته محكمتا الاستئناف والتمييز (محكمة النقض).

كان العلواني قاضيا منفتحا متنوع الثقافة. كان يذهب إلى النوادي والكنائس المسيحية ليحاضر مع القساوسة عن الأخوة في الوطنية والمواطنة بين المسلمين والمسيحيين.

وكان العلواني قاضيا فقيرا نزيها، لا يخشى في الحق لومة لائم، شأنه في ذلك شأن مئات القضاة السوريين آنذاك. ويبدو انه استكثر أن يلاحقه الجزار من المحكمة الى البيت ليهدده بعدم الحكم لزوجته بالانفصال عنه. حاول القاضي تطييب خاطر الجزار الثائر، ولم يكن قد أصدر حكمه بعد، بانتظار أن تثبت الزوجة بالأدلة والشهود قسوة الزوج عليها. لكن عندما تحول التهديد إلى إهانة، أمسك القاضي العصبي بالجزار. ثم حصل ما حصل.

أروي هذه القصة من الزمن السوري الغابر، لأقارن حال السلطة القضائية العربية بين أمس واليوم. يدور الزمن دورته. في أول الثمانينات، أضربت نقابات المحامين السورية مطالبة بالحرية والديمقراطية واستقلال السلطة القضائية والالتزام بحكم القانون. في مكر السلطة التنفيذية، راح رأس النظام يناور ويسوف ويبذل الوعود بالديمقراطية، الى ان تمكن من ضرب النقابات الحرة. «أمم» النظام المحامين والأطباء والمهندسين والصيادلة. صارت نقابات المحامين كنقابة عمال المخابز. وُضع عشرات المحامين المضربين في المعتقلات والسجون. بعضهم قضى أكثر من عشر سنوات بلا محاكمة. ولم يفرج عنهم إلا بسبب المرض، أو الوساطات العربية المتكررة.

عندما ضُرب رجال القانون، ضُربت السلطة القضائية. صارت كالسلطة التشريعية. لا أحد يتحدث في سورية اليوم عن استقلال القضاء، عن نزاهة القضاة، عن عدل المحاكم، عن حكم القانون. لم يُسمع صوت لنقابات المحامين السوريين في الاعتراض والاحتجاج على استمرار الاعتقالات والأحكام القضائية الجائرة.

تتحدث الصحافة العربية أحيانا عن تهميش السلطة التشريعية. لكن الصحافة تنسى «تأميم» السلطة القضائية. هل يجرؤ قاض عربي اليوم على تحدي رئيس دولته؟ لن أقدم الدولة الغربية الديمقراطية مثالا على احترام سلطة القضاء. لن اضرب مثلا بشيراك ورئيس حكومته السابق دوفيلبان اللذين يتعرضان لمساءلة القضاء عن تجاوزات ارتكبت في عهدهما. لن أتحدث عن السلطة التشريعية الأميركية (الكونغرس) التي تلاحق ادارة بوش عن مسؤوليتها في فصل سبعة من قضاة النيابة العامة، انما أذهب الى باكستان، البلد الذي تشبه أوضاعه السياسية أوضاع كثير من الدول العربية.

باكستان يحكمها حلف الطبقة الوسطى الليبرالية مع الأحزاب الديمقراطية حينا، ومع العسكر حينا. وهي تقف سدّاً منيعا أمام أحزاب دينية شديدة التزمت والانغلاق. لكن عندما علمت الطبقة الوسطى بإقالة الرئيس الجنرال مشرف لافتخار محمد شودري رئيس المحكمة العليا، نزلت ممثلة بقضاتها ومحاميها الى الشارع معترضة.

قبل أيام، أصدرت المحكمة العليا قرارا بإعادة رئيسها الى عمله، واعتبرت الرئيس متجاوزا لسلطته. رضخت حكومة مشرف. أصدرت بيانا قالت فيه: «يجب على الباكستانيين قبول الحكم برضا وفخر يعكسان أمة ناضجة».

ومنذ أيام، وقف الطبيب الفلسطيني أشرف الحجوج يتساءل عن سبب السكوت العربي المطبق عما حل به من ظلم وتعذيب هو والممرضات البلغاريات أمام القضاء الليبي وفي الزنزانات الليبية على مدى ثماني سنوات: اين منظمات حقوق الانسان العربية؟ أين القضاة والمحامون العرب؟ أين اتحاد المحامين العرب؟ يأتي الجواب من صمت القبور. لا كلمة. لا صدى. الطريف ان القذافي طلب من جامعة الدول العربية قطع العلاقات مع بلغاريا، لأنها أفرجت عن الطبيب الفلسطيني والممرضات البلغاريات.

قد يكون المؤتمر الصحافي الذي عقده الطبيب وبعض الممرضات مدبرا «لتشويه» سمعة ليبيا بالحديث عن الركل والصفع والربط بالأبواب والعزل المنفرد بالزنزانات. اذا كان ذلك كل التعذيب الذي لقيه الطبيب والممرضات، فمعناه ان ليبيا لم تستفد من «الطب» البلغاري في تطوير أساليب وأجهزة التعذيب التي اشتهرت بها المخابرات «الطبية» البلغارية خلال الحرب الباردة.

المأساة ليست هنا فحسب. انها مأساة القضاء الليبي. لا شك انه طُلب من القضاة الحكم بالإعدام على الطبيب والممرضات. استجابت المحكمة البدائية. صدَّقت الحكم محاكم الاستئناف والمحكمة العليا. قيل للقضاة ان المخابرات الاميركية والإسرائيلية هي التي أمرت الممرضات البلغاريات والطبيب بحقن الاطفال بالدم الملوث.

اذا كان ذلك صحيحا، فلماذا أُجبر القضاء العالي على تخفيض الاعدام الى المؤبد؟ كيف ينظر القضاة الليبيون الى انفسهم وهم يرون أمرا بالإفراج يصدر بجرة قلم من حكيم الثورة الملهم؟!

كان على الممرضات أن يتأكدن من سلامة الدم المنقول. بعد اعتقالهن مع الطبيب، ذعرت السلطات الليبية. فقد استمر الايدز في الانتشار على شكل وباء في مدينة بنغازي والمستشفى الحكومي. هناك اكثر من عشرة آلاف اصابة بالمرض في بلد صغير لا يتجاوز عدد سكانه اربعة ملايين انسان.

كلفت السلطات الليبية اكبر خبيرين اوروبيين في استقصاء الوضع، أحدهما الدكتور لوك مونتانييه مكتشف الايدز، والآخر فيتوريو كوليتزي الخبير بالأوبئة. كانت النتيجة مذهلة: المسؤول الاول هو القذارة والإهمال واللامبالاة في المشافي الحكومية. الاجهزة الطبية قديمة وغير معقمة. الدم الملوث لم يجر تحليله قبل حقن مئات الاطفال به.

سكتت السلطة عن سوء إدارة اللجان الثورية للصحة والمشافي العامة. للتغطية والتستر، كان الالحاح على المضي في اتهام الطبيب والممرضات. لو كان هناك قضاء مستقل لما اجبرته السلطة على الادانة، ولما احرجته بالإفراج. ولو كانت هناك صحافة حرة لما تجرأت اللجان الثورية على المحافظة بعناية على القذارة والإهمال في مشافي الدولة. اعرض الحالة الليبية كحالة عربية مفضوحة لمأساة القضاء العربي ككل، ولمأساة الصحة والنظافة في المشافي الحكومية. الدولة العربية لم تبلغ، بعد، مرتبة الدولة الحانية على مواطنيها ومجتمعها.

بلغاريا بلد يُعنى بنظافته بشهادة زواره. لكن لا يضرب المثل بطبها وعلمها وتمريضها. مساكين العرب الذين يعالجون الأوبئة وأمراض السياسة بالطب البلغاري. هناك جبهة تقدمية «بلغارية» لمعالجة اوجاع الحزب الحاكم في سورية. وهناك ممرضات استُقدمن خصيصا من بلغاريا لمعالجة أمراض الجماهيرية الليبية العظمى.