العراق.. بين عطار الرياضة ودهر السياسة

TT

هل تصلح الرياضة ما أفسدته السياسة؟

هذا ما بشر به البعض، وتمناه البعض الآخر عقب فوز المنتخب العراقي «الوطني» بكأس الأمم الآسيوية.

فريق لعب بروح حماسية، و«غيرة» عراقية، تحت شعار واحد، فيه الجنوبي والشمالي، العربي والكردي، السني والشيعي، لكنهم في النهاية رفعوا علما واحدا، هو علم العراق.

تابعت تصريحات اللاعبين العاطفية عقب الحصول على الكأس، وكلها تنضح بالتأكيد على اتحاد العراقيين ونبذ الطائفية والعرقية، وكذلك الجمهور العراقي، في الداخل والخارج.

هذه روح جميلة، وشعور راق، بلا ريب، وكما قال احد المعلقين من الجمهور، بصوت متهدج لقناة العربية: «هؤلاء هم قادة العراق الحقيقيون».. تعليق كثيف بالغ يوجز نظرة العراقيين إلى لاعبي المنتخب الوطني.

هناك شعور بفقدان الرموز الجامعة لدى العراقيين، كل شيء يتفتت، ينقسم، يتصارع، وحتى العلم الوطني نفسه صار موضع خلاف: حدود الأقاليم، هوية البلد، توزيع الثروة، إدارة الدولة، تدبير الأمن، قيادة الجيش، مقاومة الأمريكان،العلاقة مع إيران، وضع المرأة، الدستور، المحاصصة الوزارية.. كل شيء في العراق صار يفرق ولا يجمع. وفي فجوات الاختلاف الشاسعة هذه تجد السيارات المفخخة، والشعارات المفخخة أيضا، والدول المحاربة بالوكالة، مسرحا لها في حفر العراق، وفجواته.

من هنا، تحول منتخب الكرة إلى أسطورة، وصار لاعبوه «قادة العراق الحقيقيين» كما قال المشجع المتحمس.

ومن هنا، أيضا، لم يكن غريبا على المتابع وهو يصغي إلى تصريحات كابتن الفريق يونس محمود، الذي أحرز هدف الفوز، أن يصغي فيها إلى لغة القائد السياسي أو المنقذ الوطني، أكثر من كونه يتحدث بوصفه لاعب كرة فاز فريقه ببطولة من ضمن بطولات.

إنه ظرف العراق الاستثنائي والشاذ، والعطش الشديد إلى لحظة «جامعة» تؤكد للذات الخائفة من المستقبل المجهول أن بإمكاننا أن نتوحد، ولو على كرة القدم، بل بسبب كرة القدم.

والحق أن العلاقة بين الرياضة والسياسة علاقة معقدة ومثيرة، فهي علاقة مؤثرة ومشتبكة بالسياسة، كما قال إبراهيم جو، رئيس المجلس الرياضي في جنوب أفريقيا : «كانت المقاطعة الرياضية من العوامل التي ساهمت بجانب الصراع السياسي في التخلص من الفصل العنصري». وهو يتحدث عن مقاطعة الفيفا (1976) واللجنة الاولمبية (1970) لحكومة الفصل العنصري في أفريقيا، سابقا، ما أدى إلى إرغام الحكومة العنصرية البيضاء، ضمن عوامل أخرى طبعا، على تغيير سياسات الفصل العنصري، كما ذكر إبراهيم في مقابلة له مع وكالة الأنباء الألمانية في يناير الماضي.

استُخدِمت الرياضة سياسيا، مرات كثيرة، أحيانا نجح هذا الاستخدام، كما في نموذج جنوب أفريقيا، وأحيانا اخفق، كما في محالات هتلر، لتثبيت عقيدته حول تفوق العرق الآري، كما في دورة الألعاب الاولمبية الشهيرة في برلين.

والسياسة تختلط بالرياضة كثيرا، حتى في المستوى الأقل من مستوى منتخبات الدول، أعني داخل الدولة الواحدة، حيث يصبح تشجيع النادي عبارة عن «مجاز سياسي واجتماعي» تعبر فيه الانتماءات الفرعية عن نفسها من خلال قولبة وتظهير هذا الانتماء على شكل تشجيع رياضي، وهو أمر خارج عن قدرة الدول على السيطرة، لذلك تجد أن المجال الرياضي، خصوصا كرة القدم، يصبح هو أكثر المجالات بعدا عن سيطرة الرقيب السياسي، حتى في الدول الشمولية، كما في مثال ناديي «الجيش وتشرين» في سوريا.

وحينما تقرأ عن تاريخ التنافس بين الأهلي والزمالك في مصر تجد أن للسياسة دورها، فالزمالك كان ناديا مختلطا أنشأه المستشار الألماني في المحكمة العليا «مارجاباك»، وفي المقابل فإن النادي الأهلي كان فكرة مجموعة التجار ورجال الحركة الوطنية بقيادة مصطفى كامل، وفي موقع النادي الرسمي تجد تفسيرا لسبب التسمية بأنه : «سمي الأهلي بهذا الاسم لأنه نشأ لخدمة طلبة المدارس العليا الذين كانوا الدعامة الأساسية للثورة ضد الاحتلال الانجليزي».

لكن هذه القصة ذهبت مع ريح التاريخ، وجمهور ولاعبو وإداريو الزمالك هم مصريون خلص، لا فرق بينهم وبين الأهلي، من هذه الزاوية.

وفي الأردن، تجد التنافس الشديد بين ناديي الوحدات والفيصلي، وهو في جذوره يعود إلى أسباب سياسية باعتبار الوحدات هو واجهة الأردنيين من أصل فلسطيني، والفيصلي هو واجهة الأردنيين من أصل شرق أردني... مع أنك تجد في الفريقيين لاعبين من شتى المنابت، وربما في الجمهور، ولكن هكذا تجد بعض التعبيرات الاجتماعية والسياسية لنفسها طريقا في الرياضة.

هل يعني هذا كله أن الرياضة تعزّز الانقسام الاجتماعي وتذكّي النعرات الداخلية؟!

أبدا، ولكنها معبر وجسر، صحي ربما، لتجد هذه النزعات، ولا أقول النعرات، لنفسها مسرحا «سلميا» ومفيدا، للتعبير، فخير أن تتحول طاقة الانتماء السلبي إلى منتج ايجابي، وموهبة مثمرة، وفي المنتخب الجامع يفترض ذوبان هذه الهويات الفرعية.

الآن، وبالعودة إلى الحديث عن المنتخب «الوطني» العراقي والكلام الكبير والجميل عن أنه سيكون سببا، مساعدا إذا ما تواضعنا، في إيقاظ الشعور الوطني الجامع، هل هذا الكلام يعتبر واقعيا وصحيحا؟!

ما جرى بلا شك هو لوحة جميلة تمناها ويتمناها الكثيرون، ويحلمون بسريان هذا النموذج الوطني إلى السياسة، ولكن ليت يوجد في السياسة التنافسُ القانوني والعلني والسلمي كما كرة القدم..

أهل السياسة في العراق مختلفون على كل شيء، وهذا نوري المالكي يهدد بأنه إذا ما سلح الجنرال بتريوس عشائر الغرب السني، فإنه سيسلح الميلشيات الشيعية؛ لاحظوا هذا رئيس وزراء العراق كله !! الغريب أن السيد المالكي أظهر فرحه بفوز الفريق العراقي، وطالب الشعب العراقي بالتعلم من درس الانتصار على المستحيل، و«محاربة التكفيريين والقتلة»، وفي نفس الوقت دعا طارق الهاشمي، نائب رئيس الجمهورية وأحد قادة التوافق السني المتصارع مع حكومة المالكي، دعا لاعبي المنتخب العراقي البطل الى تظاهرة سلمية أمام المنطقة الخضراء من أجل تعلم التوحد، ومحاربة الطائفية...

كل يغني على ليلاه !

واقع الانقسام في العراق اكبر من واقع الوحدة، وحسب دراسة اصدرها معهد بروكنغز الأمريكي مؤخرا للباحثين ادوارد جوزف من جامعة جون هوبكنز، ومايكل هانلون المتخصص في سياسة الأمن القومي الأمريكي في معهد بروكنغز، عن مستقبل التقسيم في العراق، فإنه ومع حرص «أغلب» دول المنطقة على عدم تقسيم العراق، ومع مقاومة العرب السنة الشرسة لهذا التقسيم، إلا أن «تقسيما ناعما» حسب اصطلاح التقرير، هو ما سيجري في العراق، بحيث تتحول المحافظات العراقية الثمانية عشرة، تتحول إلى ثلاثة أقاليم كبرى : شيعي وسني وكردي، تديرها حكومات محلية، بإدارة مركزية «ناعمة أيضا». ومع أن مشكلة النفط مشكلة كبرى، حيث أن العرب السنة الذين يكونون حوالي 20 % من العراقيين، حسب التقرير، لا يمكن أن يستفيدوا سوى من 10% من عائدات البترول، ناهيك من فقدان التأثير الحقيقي في الحكم، إلا أن كل السيناريوهات الأخرى حظوظها في التحقق أقل من حظوظ التقسيم الناعم.

الدراسة لا تشجع سيناريو التقسيم، ناعما او خشنا، إلا انها تشير الى انه لن يرد التقسيم إلا اقرار العراقيين بفدحه عليهم وحصول حرب اهلية مدمرة تشعر بكارثية التفتت الطائفي، ولذلك فإنه في الواقع العالي يصبح «التقسيم الناعم» هو الأكثر واقعية الآن، رغم أن هناك عقبات كبرى تعترض واقع التقسيم الناعم أيضا، ومنها أن هناك اختلاطا ديموغرافيا بين العراقيين أنفسهم، فليس هناك أقاليم صافية تماما، ويكفي أن نعلم انه من مجمل الزيجات العراقية فإن 30% زيجات منها هي زيجات مختلطة طائفيا.

المشهد العراقي مغبر وكئيب، فهناك أطماع داخلية في الثروة والسلطة، وهناك مخاوف تاريخية كبرى بين السنة والشيعة، وهناك تدخلات من دول إقليمية في العراق، وهناك المصلحة الأمريكية بعد ذلك، وإذا ما تم تخطي كل هذه العقبات والحواجز وتحقيق «هدف الفوز» لصالح العراق فإننا سنكون على موعد مع نصر اكبر وأعظم وأبهى من نصر جاكارتا... ولكن لن يحقق هذا الفوز إلا أهل العراق الذين يملكون ـ وحدهم ـ مفاتيح اللعب الحقيقية، وهم وحدهم من يقدر على إحراز النصر الأعلى، فهل يملكون روح يونس محمود، وهوار ملا، وكرار جاسم؟!

[email protected]