الكفاءات العربية.. هجرة بالحقائب من دون عودة

TT

بعد مرور قرابة نصف قرن أو ما يزيد، على حصول الدول العربية على الاستقلال ورفع الأعلام مرفرفة وصراخ النخب بأعلى الأصوات وأكثرها ثقة ووعودا بأنها طوت صفحة التخلف لتبدأ في خط صفحات مشرقة من التنمية والتقدم، نجد أنفسنا أمام تفاقم خطير لظاهرة هجرة الأدمغة العربية، التي تعني هجرة رأس المال الأغلى في شكل نزف لا شيء ينبئ بجدية محاولة إيقافه، أو على الأقل التقليل من تدفقه الشبيه بالشلال. ودليلنا في رسم هذه الصورة المفزعة أن تلك الخسائر التي منيت بها البلدان العربية بسبب هجرة أدمغتها، والتي كانت تقدر في السبعينات من القرن المنصرم بـ11 مليار دولار، قد تضاعفت اليوم عشرين مرة لتصل إلى 200 مليار دولار كحجم تقديري للخسائر العربية، وذلك حسب آخر تقديرات منظمة العمل العربية.

بل وإمعانا في الفزع نضيف ما أورده الكندي ريفين برينز في كتابه «القرن المالي» عندما قال إنه إذا افترضنا أن تعلم أحد المهاجرين العرب يكلف بلده في المتوسط عشرة آلاف دولار، فإن ذلك يعني تحويل 18 مليار دولار من الأقطار الإسلامية إلى الولايات المتحدة وأوروبا كل عام.

فما الذي انتهى بنا إلى هذه المعاناة الصامتة والمفجعة في آن، والحال أن كل دول الاستقلالات العربية، شنت حملة شعواء ضد الأمية ومظاهر التخلف الاجتماعي والثقافي، وراهنت على خلق أدمغة وطنية تقود مشروع التنمية أو ما عبر عنه الزعيم التونسي الراحل الزعيم بورقيبة بمعركة الجهاد الأكبر ويقصد بها معركة التقدم؟

ثم إلى أي حد يبدو التعبير دقيقا وشفافا، عندما نتبنى مفهوم هجرة الأدمغة. أو ليس الأصدق أن نقول إن ما يحصل في الدول العربية منذ السبعينات إلى اليوم، هو تهجير للأدمغة العربية أكثر منه هجرة، حتى لو كان هذا التهجير من النوع غير المباشر.

وللعلم فإن عبارة هجرة العقول أو الأدمغة، ابتدعها البريطانيون لوصف خسارتهم من العلماء والمهندسين والأطباء بسبب الهجرة من بريطانيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، في حين تعرف منظمة اليونسكو هجرة العقول بأنها «نوع شاذ من أنواع التبادل العلمي بين الدول يتسم بالتدفق في اتجاه واحد، ناحية الدول المتقدمة أو ما يعرف بالنقل العكسي للتكنولوجيا، لأن هجرة العقول هي فعلا نقل مباشر لأحد أهم عناصر الإنتاج وهو العنصر البشري». واستنادا الى لغة الأرقام البليغة نذكر أنه جاء في دراسة لمركز الخليج للدراسات الاستراتيجية صدرت في مايو 2004 أن الدول الغربية الرأسمالية، قد استقطبت ما لا يقل عن 450 ألف من العقول العربية، وأن الوطن العربي يسهم بـ31% من هجرة الكفاءات من الدول النامية إلى الغرب الرأسمالي بنحو 50% من الأطباء و23 من المهندسين و5% من العلماء من العالم الثالث.

ولكن ما هي الأسباب الأساسية لهذا النزف المستمر للأدمغة العربية؟

في الحقيقة ان الاطمئنان إلى نظرية المؤامرة في هذه المسألة تحديدا ينضوي على مجانبة الواقع والحقائق، خصوصا أن معظم الأدمغة التي نتحدث عنها ونتحسر لبعدها عن أوطانها واقتصادياتها الضعيفة المحتاجة إلى خبراتها، تغادر الوطن وهي مشاريع أدمغة، أو ما يمكن أن نسميه بالعقول الممكنة، التي اختارت الإقامة في دول الشمال، أين العلم وملتقى العلماء وفرص إشباع الطموحات العلمية.

لذلك، فإن فهم ظاهرة هجرة العقول العربية، لا يتحقق سوى بالوقوف عند نوعين من الأسباب: الأولى المجبرة على خوض تجربة الهجرة. ويتعلق النوع الثاني من الأسباب بعوامل استقطاب الدول المتقدمة للعقول العربية. ولقد اعتمد أغلب الباحثين الصنفين من الأسباب وكذلك الشأن بالنسبة إلى دراسات مراكز البحث وأمعة الدول العربية ومنظمة العمل العربية وغيرها.

لقد فضلنا استعمال كلمة «المجبرة» عوضا عن «الدافعة» كما هو شأن أغلب الدراسات في هذه المسألة، لأن الإجبار أعظم وطأة من الدفع وأكثر قسوة، خصوصا أننا في بداية هذه المقالة عبرنا عن ميل لتبني معنى «التهجير» ودلالته أكثر من تلك الرموز الأكثر رحابة وأحيانا حياديته التي يقودنا إليها مفهوم «الهجرة» وتراوحه بين دلالات بعضها متناقض.

حدد الاتحاد البرلماني العربي في مؤتمره العاشر بالخرطوم بتاريخ 11 فبراير 2002 خمسة أسباب لظهور وتفاقم ظاهرة هجرة العقول العربية وهي: ـ ضعف وانعدام القدرة على استيعاب أصحاب الكفاءات الذين يجدون أنفسهم، إما عاطلين عن العمل أو لا يجدون عملا يناسب اختصاصاتهم في بلدانهم (الجراحات الدقيقة، الطب، الهندسة، الالكترونية وعلوم الليزر).

ـ ضعف المردود المادي لأصحاب الكفاءات.

ـ انعدام التوازن في النظام التعليمي، أو فقدان الارتباط بين أنظمة التعليم ومشاريع التنمية.

ـ عدم الاستقرار السياسي أو الاجتماعي والإشكاليات التي تعتري التجارب الديمقراطية العربية والتي تؤدي في بعض الأحيان إلى شعور بعض أصحاب الخبرات بالغربة في أوطانهم، أو تضطرهم إلى الهجرة، سعيا وراء ظروف أكثر حرية وأكثر استقرارا.

والى جانب هذه الأسباب الأساسية، يمكن أن توجد عوامل أخرى موضوعية أو ذاتية تدفع أصحاب الخبرات إلى الهجرة كالبيروقراطية الإدارية وأنظمة الخدمة المدنية، وبعض التشريعات والتعهدات والكفالات المالية التي تربك أصحاب الخبرات، إلى جانب أسباب عائلية أو شخصية فردية.

ويظهر أن هذه الأسباب تغير مواقعها، ذلك أن دراسة مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية اختارت أن تكتفي بالتركيز على سبب واحد منتج لظاهرة هجرة العقول العربية وهو ضعف الاهتمام بالبحث العلمي. وهو تركيز تبرره معلومات مفادها بأن الإنفاق السنوي للدول العربية على البحث العلمي لا يتجاوز 0.2% من إجمالي الموازنات العربية. وكي نحدد بدقة ضعف هذا الإنفاق تكفي الإشارة إلى أن ما تنفقه أمريكا على البحث العلمي يساوي 3.6% والسويد 3.8% وسويسرا واليابان 2.7% وفرنسا والدنمارك 2%.

وفي هذا السياق نعتقد أنه من الخطأ الاستهانة بتدهور نظم التعليم في الوطن العربي، فهو الفضاء الذي يبني العقول حسب تعبير بيار بورديو وفضاءاتنا التعليمية، قد نخرها سوس التسييس والدمعجة فكانت النتيجة أن تقريرا نشر في سبتمبر 2005 يضم أفضل 500 جامعة في العالم لم يتضمن ولو جامعة عربية واحدة، علما بأن حظ الولايات الأمريكية من القائمة المذكورة بلغ 190 جامعة.

هذه الأسباب التي تجبر العلماء العرب على الاغتراب وحمل حقيبة السفر من دون عودة ومن دون إهدارهم لعمر واحد قصير يرتضون قضاءه في المختبرات والأبحاث المثابرة بعيدا عن الإحباط والتهميش وهدر مواهبهم بفعل المحسوبية والوساطة والثقافة السائدة، التي تميل إلى محاربة الكفاءة كي لا تكبر، ولا تحلق، ولا تتلألأ نجمة في السماء.

أما عوامل الاستقطاب التي تبنتها واستندت عليها معظم الدراسات والأبحاث فتتمثل في:

ـ الريادة العلمية والتكنولوجية للبلدان الجاذبة ومناخ الاستقرار والتقدم الذي تتمتع به هذه البلدان. وأيضا توفر الثروات المادية الضخمة التي تمكنها من توفير فرص عمل مهمة ومجزية ماديا تشكل إغراء قويا للاختصاصيين. بالإضافة الى إتاحة الفرص لأصحاب الخبرات في مجال البحث العلمي والتجارب التي تثبت كفاءاتهم وتطورها من جهة أخرى، وتفتح أمامهم آفاقا جديدة أوسع وأكثر عطاء، من جهة أخرى.

ولا ننسى أن توفير تربة بحثية خصبة ووجود منظومة ثقافية قيمية تولي للعلم أعلى مراتب الاهتمام، يمارسان إغراء يصعب على العقول العربية المتحدرة من بيئة بحثية فقيرة، مقاومته. فلا يخفى أن للعلماء طقوسهم الخاصة، وان هناك ما يسمى بلذة البحث، الشيء الذي يشكل نفسية ذات بعد كوني عند كل عالم كبير، فيصبح العلم هو الوطن وكل الجغرافيات المشجعة أرضية خصبة وفضاء احتواء ونفسية أي صاحب كفاءة تبحث عن دور فردي، وفرص تحقيق الذات وإثبات الفاعلية. وإذا كانت ماهية الإنسان العادي يعرفها عالم النفس ابراهام ماسلو بـ«الكيان الذي يتنامى في اتجاه تحقيق إمكانياته الطبيعية، التي تغلب عليها الإيجابية» فما عسى أن نقول في شأن ماهية إنسان ولد ليكون عالما، خاصة أن اقتصاد العولمة يفرض على الأدمغة العربية، بل وحتى الأوروبية أن تتجه إلى حيث يمكنها أن تكون مفيدة.

ومن غرابة الأمور في الدول العربية أنها رغم تحققها من تأثر اقتصادياتها من نزف أدمغتها نحوالخارج، فإنه على المستوى العملي نلحظ استغناء عن خدماتهم ولا مبالاة من حجم الخسائر الناتجة عن ظاهرة الهجرة، لاجئة في إطار مزيد تكبد الخسائر إلى الاعتماد على كوادر غربية في مشاريعها الكبرى. لذلك فإنهم يحملون الحقيبة من دون عودة، وكأن النخب السياسية العربية الحاكمة والعلماء في خصام مسكوت عنه، تدفع فواتيره الشعوب العربية المستنزفة.

[email protected]