الاختبار التركي

TT

عندما جرت الانتخابات التركية الأخيرة فى 22 يوليو المنصرم، فإنها لم تكن واحدة من تلك الانتخابات العادية أو المعتادة التي تجري فى البلدان المتقدمة أو النامية بحثا عن أوضاع بين الأغلبية والأقلية أو حسما لخلافات بين سياسات متعارضة. فعلى السطح فإن موضوع الانتخابات كان اختيار 550 عضوا في البرلمان؛ أو أنها كانت لحل الخلافات التي استحكمت بين الحكومة التركية ـ التي يقودها رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية ـ ورئيس الجمهورية ـ أحمد نشأت سيزار المدعم من قبل المؤسسة العسكرية التركية ـ حول انتخاب رئيس جديد للجمهورية. ولكن في الحقيقة فإن الانتخابات كانت حول قدرة البلدان الإسلامية، وقدرة المسلمين عامة على تقديم سياسات ذات طبيعة ديمقراطية على نمط تلك الموجودة في الديمقراطيات الغربية. أو بشكل أكثر دقة، وكما وضعت صحيفة النيويورك تايمز السؤال: هل يمكن لحكومة ذات توجه إسلامي، تم انتخابها انتخابا حرا، أن تكون ديمقراطية، وعلى علاقات طيبة مع الغرب في نفس الوقت؟

وبشكل ما فإن تركيا تقدم تمثيلا جيدا للبلد المسلم، فمن بين عدد سكانها البالغين 73 مليونا يوجد 94% من المسلمين، وفيها كانت توجد آخر مقاعد الخلافة الإسلامية عندما وصلت الإمبراطورية العثمانية إلى نهايتها بعد عمر مديد امتدت فيه في معظم الدول العربية، وهي كذلك عضو مهم في منظمة المؤتمر الإسلامي. ولكن على الجانب الآخر، فإن تركيا كانت من أول الدول الإسلامية التي عرفت التحديث، واتبعت السياسات العلمانية الفاصلة بحسم بين الدين والدولة منذ قام مصطفى كمال أتاتورك بتأسيس الجمهورية التركية عام 1924. وفي نهاية الحرب العالمية الثانية أصبحت تركيا عضوا في التحالف الغربي عندما التحقت بمجلس أوروبا عام 1949، وحلف الأطلنطي عام 1952، وأصبحت دولة منتسبة إلى التجمع الأوروبي عام 1959 أى بعد عام احد من إنشائه. وفي عام 1995 شكلت تركيا اتحادا جمركيا مع «الاتحاد الأوروبي»، وتقدمت بطلب للعضوية الكاملة فيه، وبدأت مفاوضات الانضمام بالفعل فى أكتوبر 2005.

هذا الشكل المتناقض بين ماضي تركيا وتقاليدها التاريخية من جانب، وروابطها الغربية الحديثة من جانب آخر، كان موضع الاختبار بالنسبة للسياسة والهوية التركية بسبب عاملين: أولهما عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001 حينما أصبح المسلمون على وجه العموم مشكوكا فى مسؤوليتهم عن «صدام الحضارات» مع الغرب؛ وثانيهما طبيعة حزب العدالة والتنمية التركي والذي له تاريخ مع «الإسلام السياسي»، من خلال أصوله المتأثرة بحركة الإخوان المسلمين الممتدة في معظم بلدان العالم الإسلامي بألوان وأشكال مختلفة ممتدة بين الاعتدال والتطرف. هذان العاملان لم يجعلا تركيا مشكوكا بها في نظر حلفائها والغرب بشكل عام، ولكنهما أخرا عملية انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، بل أنها خلقت نوعا من السياسة الأوروبية يقوم على معارضة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي باعتباره ناديا للدول المسيحية. وبشكل ما فإن تركيا أصبحت موضوعة تحت اختبار وامتحان دائم حول عما إذا كان لديها الإمكانية للتطور الديمقراطي تحت قيادة أحزاب إسلامية كما تطورت الأحزاب الديمقراطية المسيحية في الديمقراطيات الغربية.

والحقيقة الواضحة هي أن الانتخابات التركية أظهرت أن حزب العدالة والتنمية نجح نجاحا باهرا بالقدر الذي نجحت فيه تركيا نفسها في الاختبار. فقد شارك 85% من الناخبين الأتراك فى الانتخابات ـ وهي نسبة عالية وفق كل المعايير الديمقراطية ـ لاختيار أعضاء البرلمان من بين 14 حزبا و700 مرشح مستقل. وقد حصل حزب العدالة والتنمية على 47% من الأصوات و342 مقعدا، وهو ما يمثل من ناحية أغلبية تكفي لكي تعطي الحزب ما يجعله يمضي قدما في برنامجه الإصلاحي، ولكنها من ناحية أخرى لا تعطيه أغلبية الثلثين ـ أو 367 مقعدا ـ والتي تعطيه القدرة على تعديل الدستور بشكل منفرد، وهذه حكمة ونضج لدى الناخبين الأتراك غير متوافر في كثير من البلدان. وحصل حزب الشعب الجمهوري على 112 مقعدا، والحزب القومي على 70 مقعدا، بينما حصل المستقلون على 26 مقعدا كان منهم 24 يمثلون الأكراد.

وبشكل ما، وكما يحدث في كل الديمقراطيات الأخرى، فإن الشعب التركي كافأ حزب العدالة والتنمية على منجزاته الاقتصادية وإصلاحاته الاجتماعية. فعندما وصل الحزب إلى السلطة في نوفمبر 2002، كان الناتج المحلي الإجمالي لتركيا 181 مليار دولار، وفي 2007 أصبح هذا الناتج 410 مليارات، وبمعدل للنمو قدره 7.4%، وهو معدل مثير للإعجاب وفق كل المعايير. وخلال نفس الفترة، وبأكثر مما فعل أي من الأحزاب التركية الأخرى، فإن الحزب اقترب من موضوع العضوية في الاتحاد الأوروبي بحزم وعزم وصبر وإصرار والعمل الدؤوب لكي يوفى بالمقاييس الأوروبية المطلوبة. وبنفس القدر من الحكمة، تعامل الحزب مع السياسة التركية، والسياسة الأوروبية حقا، بقدر غير قليل من التفهم والحيطة. وحينما قام العلمانيون الأتراك بشن حملة واسعة ومظاهرات ضخمة من أجل التشكيك في المصداقية الديمقراطية لحزب العدالة والتنمية، فإن الحزب رفض القيام بحملة أو مظاهرات مضادة رغم قدرته على فعل ذلك بأكثر بكثير مما فعله العلمانيون. وفيما بعد الانتخابات كان المنتصر رجب طيب أردوغان هو الذي قال لأنصاره «أن فرحتنا لا ينبغي لها أن تكون حزنا لهؤلاء الذين لا يفكرون مثلنا».

وفى الحقيقة فإن أردوغان ورفاقه كانوا يفهمون جيدا إشكالية السياسة التركية؛ فتركيا ليست بلدا فقط عليه أن يتعامل مع التناقضات التي تفرزها تقاليد الماضي وتحديث الحاضر، أو حتى إشكالية الجغرافيا التي تضع قدما لتركيا في آسيا والشرق الأوسط، وقدما أخرى في أوروبا، ولكن أيضا، وبشكل لا يقل أهمية، إشكالية الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية. فمع صعود تركيا على سلم التقدم الاقتصادي، واقتصاد السوق، والاندماج في الأسواق الأوروبية والعالمية، والمشاركة في الثورة العالمية الاتصالية المعاصرة، فإن الحراك الاجتماعي، وزيادة الحضر، أديا إلى هجرة أعداد هائلة من المتعلمين الجدد إلى المدن حاملين معهم تقاليدهم وعاداتهم الاجتماعية وأنماط الملبس بما فيها أغطية الرأس والحجاب بالنسبة للنساء. هذه التطورات لم تضع فقط موضع الاختبار مدى إخلاص حزب العدالة والتنمية لحقوق النساء وحريتهم، وإنما أيضا وضعت موضع الاختبار إخلاص الغرب والنخبة التركية واحترامهما للحريات الفردية وتأثرها بمدى التطور والتقدم في تركيا.

هذا الاختبار التركي قد توقف عن كونه اختبارا لحزب العدالة والتنمية فقط، ولكنه صار اختبارا لكل هؤلاء الذين يعتقدون في المبادئ الديمقراطية القائمة على احترام التنوع والتعددية. وأكثر من ذلك فإنها اختبار لأوروبا نفسها والاتحاد الاوروبي معها والذي قبل 27 بلدا تعددت تقاليدهم السياسية والاجتماعية، وبعضها لم يكن مختلفا عن ذلك السائد في تركيا. ولكن تركيا مع ذلك تظل حالة متميزة، ليس فقط بسبب تاريخها وتقاليدها الإسلامية، ولكن لأنها المثال الحي على إمكانية التعايش بين الحضارات، والمثال على قدرة الأحزاب الإسلامية التقليدية على عبور الحدود نحو القيم والمبادئ الديمقراطية، كما استقرت على شواطئها مع بداية القرن الواحد والعشرين. كل ذلك سوف يجعل نتائج الاختبار التركي حاسمة بحيث تجعل تركيا حالة يمكن تقليدها من قبل العديد من البلدان الإسلامية؛ أو حالة ينبغى تجنبها لان اللحاق بالديمقراطيات الغربية مغلق بسبب أغطية رؤوس النساء كما يفضل بعض الساسة في تركيا ودول أوروبية؟!