إيران وأمريكا.. أحاذر أن تمسي البصرة ثمناً!

TT

لا يُستبعد في ممرات السياسة المعتمة، أن تطرح إيران اثناء مباحثاتها مع أمريكا رغبتها بالبصرة ثمناً مقابل رفع يدها عن بقية أجزاء العراق، وقطع تعاونها مع الميليشيات من شتى المذاهب والأجناس، التي تذبح وتُسبى بلا رادع. ها هي تنفض، الأسبوع الماضي، الجولة الثانية من المباحثات بين الدولتين على أرض العراق بحضور عراقي مرهون ليس له غير النظر والسماع. حضرت بغداد تشرئب إلى نبرة الكلام، السفير الإيراني يأخذها يميناً، ويردها السفير الأمريكي يساراً.

أحاذر أن يسفر السكوت العراقي، والتفريط الأمريكي، بزرعنا وضرعنا، إلى رفع العلم الإيراني على أطراف السعف، لتلحق البصرة بخوزستان، حسب لغة أهل فارس. والبصرة، كما أرى، جاهزة لمثل هذا الدور، فهي الآن تروض شعبياً، ولم يبق من أهلها الأُصلاء سوى المغلوب على أمرهم. تجد اللسان الفارسي ساري المفعول بشوارع وجامعات ثغر العراق، الذي ما عاد باسماً، ولا حدود بين الضفة الشرقية والغربية من شط العرب. و«اطلاعات» الإيرانية تأمر باغتيال هذا وتعيين ذاك. ولا أثر لكتاب غير ممهور بختم دار نشر إيرانية. ولا يتعلق الأمر بالمذهب أبداً، فأول الضحايا هم شيعة الجنوب، بقدر ما يتعلق بعلائق وضمانات، والوطن لدى المتياسرين مع حق إيران بالبصرة، على خلفية الخوارط القديمة، أرخص من منصب مستشار أو محافظ!

ما زالت تجربة تنازل دولة البعث (1975) عن حق العراق بتراب وماء من البصرة لإيران ثمناً لتصفية الحساب مع الثورة الكردية في الجبال ماثلة. بل ما زالت تجربة عربستان ماثلة، فمن بنود معاهدة أرضروم الثانية (1847) بين الدولتين الصفوية والعثمانية أن تمنح (المحمرة) وميناؤها والسواحل الشرقية من شط العرب لإيران، مقابل تركها التدخل بالسليمانية (العزاوي، العراق بين احتلالين)، وكل ما يتعلق من ضغوطها بشهرزور (كردستان العراق). وكانت عربستان، حسب إبراهيم صبغة الله (ت 1882)، داخلة «في حدود البصرة ومن سواد العراق» (عنوان المجد...). وبالوقت الذي استطاعت فيه الدولة العثمانية تصفية أمورها مع عشيرة بابان وإمارتها بشهرزور لم تتمكن الدولة الصفوية من ترتيب أمورها مع عشائر الأحواز أو عربستان. وانتهى الأمر إلى تمكن أسرة الشيخ خزعل (ت 1936) من إمارتها.

وما أن ظهر النفط (1908) زاد الطمع بالمكان، وحصل أن فشل الشيخ خزعل في المضي بالترشيح لعرش العراق، وقد قدم نفسه أنه عراقي ومولود على ضفة شط العرب ومؤهل أكثر من بقية المرشحين (العطية، العراق 1908 ـ 1921 دراسة اجتماعية سياسية، عن وثيقة بريطانية). واختار لإدارة حملته صديقه محامي خزينة البصرة، ورئيس الوزراء في ما بعد مزاحم الباجه جي (ت 1982). وهذا ينبيك أن الطائفية لم تمنع الباجه جي السُنِّي من دعم ترشيح خزعل الشيعي، والشيخ الشيعي سالم الخيُّون من دعم ترشيح السُنِّي طالب النقيب لعرش العراق (العمري، حكايات سياسية).

لكن، الإنكليز أرادوا تسوية الأمور مع شاه إيران الجديد رضا بهلوي، الذي رَفع نفسه من ضابط إلى مَلك، فأهدوا الأحواز له. دخلها، وهو رئيس وزراء، فأُخذ خزعل تحت أنظار الإنكليز معتقلاً (1925)، وانتهى سجيناً. ولما طلب الباجه جي زيارة صديقه، بعد حين، رفضت السلطات الإيرانية طلبه. وقيل حينها: «لو اختير (خزعل) ملكاً لأصبحت إمارة عربستان العربية الغنية بمواردها النفطية جزءاً من العراق، ولتغير مجرى التاريخ والميزان الاستراتيجي في المنطقة بأسرها» (مزاحم الباجه جي، سيرة سياسية). حصل هذا مع ما للشيخ خزعل من روابط بالإنكليز لا تقل عن روابط الحكومة العراقية الحالية بالأمريكان. لكن، حاشا لسياسة المنافع اللعوب أن يلزمها عهد واتفاق!

بعد هاتين الواقعتين، ومؤهلات البصرة الحزبية باتجاه إيران، ألا يمكن لاتفاقية 1975 والتنازل عن عربستان أن يتكررا؟ وليس بالضروة أن يأتي الولي الفقيه بعمامته على رأس حملة لاحتلال البصرة وسبيها باتفاق أمريكي، فالدنيا تبدلت، والأدوات اختلفت وتنوعت. وما على الأمريكان إلا اطلاق يد إيران، مقابل صلح عامر بين الدولتين، وعندها لا تعد أمريكا الشيطان الأكبر، ولا تعد إيران حاضنة الإرهاب، والدولة الأخطر بالعالم. وبالتأكيد يتبع تلك الخطوات إزالة حزب الله من الوجود بلبنان، وكل ماركات هذا الحزب بالمنطقة، فإذا غنم الولي الفقيه، ولف بعباءته نخل البصرة وماء شط العرب، فما له من شأن بلبنان وفلسطين!

إنها مجرد محاذير، اعذروني قد تكون من نسج مخيلة قلقة متعبة. لكن، البصرة تستحق صرخة إنذار مبكر، فبابل أسقطها كورش الفارسي (539 قبل الميلاد) وأنهاها إلى الأبد. ولم يعترف رضا شاه بدولة العراق (1929)، ويلتقي فيصل الأول ببلاطه بطهران (1932) إلا بعد ضمان عربستان، وغلق ملفها لصالحه. المشاهدات تُنبئ بأن البصرة في دائرة الخطر!... وتقدرون وتضحك الأقدار..!

[email protected]