وحتى الخروف..!

TT

يُساق المبدع في مجتمعاتنا كالخروف إلى المحكمة، وكأنه بلا عقل وبلا إنسانية أو كرامة، بل حتى الحيوان له قدر ونوع من القيمة والكرامة. كل خطأ المبدع أنه فكر وتأمل وحلّل ونقد ونفخ الصدأ عن عقله، ورفض أن يكون متبلداً وعادياً. رفض أن يسير مع التيار العربي مغمض العقل مردداً: لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم ـ والأهم ـ لا أفهم.

أفف، لا شك البعض منكم يقول، مللنا من هذه الموضوعات، أصبحت قديمة ومتكررة ومستهلكة، لكنهم مخطئون لأن الجديد في الأمر هو ما يجعلنا نخاف على مستقبل أمتنا وأبنائنا الحضاري والثقافي والفكري ـ إن افترضنا وجوده أو امتداده أصلا ـ وأعني أن القضايا الجديدة تحاكم الباحث وتهدد حريته في البحث العلمي، بل تضع له خطوطاً حمراء في ما يخص موضوعات بحثه.

كم يؤسفني ذلك، لأن دستور بلدي يشجع على البحث العلمي ويحميه، تنص المادة 14 من دستور الكويت على ما يلي: «ترعى الدولة العلوم والآداب والفنون وتشجع البحث العلمي»، لكن كما هو الحال في مجتمعاتنا التي تتمتع بعافية حضارية و«مخيّة»، القانون يعاكس ويخالف الدستور. فبينما يشجع الدستور الكويتي على البحث العلمي، يسمح قانون المطبوعات لأي مواطن مهما كان علمه أو ثقافته أو فهمه أو نيته أو قصده أن يشتكي على مواطن آخر كتب أو رسم أو أبدع.. المهم فكر. تتسلم النيابة الشكوى ثم تستدعي المبدع وتحقق معه، فإن اقتنعت بالشكوى تحيلها إلى المحكمة وإن لم تقتنع حفظتها. لكن قبل مواد الدستور نجد أن القرآن الكريم يحث على العلم والاطلاع، ألم تبدأ أولى الآيات التي نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم بـ«اقرأ»؟ إنها مفارقة وتناقض هائل نعانيه في العالم العربي.

(2) هكذا، بكل بساطة، أسمع جرس الباب في صباح حار من صيف آخر وعطلة مؤجلة بسبب التدريس الصيفي الذي يساعد على تخرج الطلبة وبذلك تخفيف العبء في السنة الدراسية الجديدة. أفتح الباب، فإذا بموظف المحكمة الذي أتعرف عليه فوراً وأرى الورقة البيضاء في يده عليها اسمي والموعد والقاعة، ويسأل، فلانة؟ وأجيب.. نعم، ويرد: أنت متهمة في قضية.. وفجأة يغيب كل شيء من حوله ولا أرى سوى وجهه يقول «متهمة».

ولكنني لست متهمة كأديبة وكاتبة هذه المرة، كما في قضية العام الماضي، حين كنت متهمة بسبب مقطع في نص من ديواني الثالث وانتهت بالبراءة ولله الحمد. فكما تعرفون يجب أن يتطور الوضع مع دخول الميلينيوم والقرن الجديد لمواكبة الثورة العلمية والاتصالية، فأتحول إلى متهمة كباحثة أكاديمية واستاذة جامعة. بعض المجتمع في صورة رجل بهيئة إسلامية يرى أن فكري كأستاذة جامعية وباحثة يشكل خطورة على هذا المجتمع النظيف الأبيض الناصع، الذي لا توجد فيه أية ظاهرة خاطئة، ولذلك على عقلي أن يهدأ ويخفف من فضوله ويقلل أسئلته تدريجياً، حتى يمسحها تماما.. ببساطة يطلب مني أن أرتاح وأتحول إلى امرأة عادية تافهة أخرى في مجتمعاتنا، تتابع الموضة والأزياء والماكياج والصرعات الحديثة، كل همها التسكع في الأسواق والمقاهي مع صاحباتها، ساعية للحصول على زوج، إن كانت عزباء، وباحثة عن سبل جديدة للإمساك بزوجها وإتعاسه زيادة وإهمال أبنائها أكثر وجلب المزيد من الخدم.. إلخ.

(3) الموضوع يستهدف المرأة وليس الرجل، صحيح انه رُفعت قضايا على رجال في السنتين الماضيتين، لكن أولا لاقى هؤلاء مساندة هائلة من محامين وجمهور ومتخصصين مع اختلاف أنواع القضايا والبلدان التي رفعت فيها، وثانيا لم يوجد أي إلحاح مستمر لإعادة أي منهم للمحكمة. أضيف أن في قضيتي الثانية المنظورة قضائياً الآن، هناك مفارقة وهي استهلاك موضوع الشذوذ الجنسي للرجال والنساء في الصحافة والإعلام بكل صوره، بينما نجد أني حين تكلمت عن السحاق للمرة الأولى في سنة 1996، فصلت من الجامعة، ثم بعد ذلك أصبح الموضوع يطرح بكل سهولة ومصوراً أحياناً، لأن العامة اعتادوا عليه، بل صرنا اليوم نقرأ مثلا أخبار زواج فتاتين غربيتين على الصفحة الأخيرة من أي صحيفة، ومنذ أيام ناقش عالم دين فاضل الموضوع في حلقتين على الهواء مباشرة على الكويتية الفضائية. ما المشكلة إذاً؟ اعتقد أنها في امرأة تناقش مثل هذه الموضوعات، لا يهم إن كانت أكاديمية أم صحافية أم تبدو بهيئة الإسلامية أو السافرة أو غيرها، المهم أن رجل الشارع يرى أن البحث في موضوعات كالسحاق لا يليق بامرأة. وأشك أن هذا الرجل يدرك الفرق بين البحث العلمي والتحقيق الصحافي. والحقيقة أن دور الأكاديميين كباحثين غائب في المجتمع عامة، إلا في المجلات العلمية المتخصصة التي لا يتناولها العامة أصلا، مما يجعل رجل الشارع لا يؤمن أو يتفهم دور الباحث المتخصص في تناول قضايا المجتمع وبحثها وتشريحها واستخلاص النتائج ـ مهما كانت مريرة وسلبية ـ بهدف الإصلاح والتطوير وليس التشهير. لو كان دور الأكاديميين أكثر فعالية وإيجابية لأدرك رجل الشارع وفهم واقعية الدور العلمي والإصلاحي للباحث، ولوجدنا أن استجابته أو رد فعله أقل حدة وشراسة من تقديم شكوى للنيابة. أما اقتصار مشاركة وفعالية الأكاديمي الباحث على الندوات والمجلات والدوريات التخصصية فيتسبب في عزله كباحث عن المجتمع ويجعل رجل الشارع يصاب بصدمة حين يقوم باحث متخصص ببحث والتكلم عنه. وتصل درجة جهل رجل الشارع إلى الخوف من المصطلح، فمن خلال مشاركة لي في إحدى الكليات في الجامعة هذا العام في محاضرة عامة، تطرقت للفساد الأخلاقي في المجتمع، وأشرت للشذوذ بين النساء والرجال. وكان من بين المعقبين شاب منفعل طلب مني تخفيف لغتي والابتعاد عن المصطلحات الجارحة. فأوضحت أنها مصطلحات علمية ولغوية سليمة تمت الإشارة إليها في القرآن والحديث الشريف ويجب التكلم بها وذكرها كما هي.

(4) ونصل إلى موضوع فقدان التواصل والاتصال بين الناس في مجتمعاتنا، فهل يعقل أن تغيب كل أنواع التواصل، بحيث تكون المحكمة هي وسيلة الاتصال والتفاهم الوحيدة؟ وهل وصل بنا الحال لدرجة أننا نعجز عن التعامل بالكلام والمخاطبة، بالورقة والقلم، أو الهاتف، ولا بنشر الرأي أو النقد ولا حتى الاتصال الإلكتروني، نتجاهل كل وسائل الاتصال ونقفز للوسيلة الأسهل والأسرع.. المحكمة.

* كاتبة كويتية