مزالق المعارضة التونسية

TT

كانت الزلة الاولى لمحمد مزالي، رئيس الحكومة التونسية بين عامي 1981 و1986 هي انه اعتقد في يوم من الايام ان خلافة الرئيس بورقيبة اصبحت من نصيبه. وانطلاقا من هذا التصور اصبح يسيّر شؤون الدولة، تاركا «الماء يجري تحت ساقيه» كما يقول التونسيون تعبيرا عن حالة التبلد الذهني التي يسقط فيها الانسان بين وقت وآخر. غير ان اسد قرطاج العجوز لم يلبث ان اطاح به فجأة ليجد نفسه مجبرا على قطع الحدود التونسية ـ الجزائرية متخفيا في زي تاجر تونسي صغير. واما الزلة الثانية فهي اعتقاده ان تحالفا مع حركة النهضة وزعيمها الشيخ راشد الغنوشي يمكن ان يعيد له الاعتبار على المستوى السياسي، ويمنحه القوة الكافية لمواجهة نظام الرئيس زين العابدين بن علي والعودة مجددا الى السلطة. واذا ما كانت الزلة الاولى قد قضت على حلمه في خلافة الرئيس بورقيبة، فإن الزلة الثانية قد نسفت ما تبقى له من طموحات سياسية، الشيء الذي جعله يعترف بمرارة كبيرة في حوار معه بأن امتهانه للسياسة كان خطأ فادحا من جانبه وانه كان عليه بالاحرى ان يكرس حياته للعمل الادبي والفكري لأن ذلك اجدى وانفع بالنسبة له.

واليوم يكرر بعض زعماء المعارضة التونسية الخطأ الثاني الذي ارتكبه محمد مزالي. فهم يتسابقون لنيل ود حركة النهضة وزعيمها الشيخ راشد الغنوشي، معتقدين هم ايضا بأن مثل هذا التحالف، سيضمن لهم السند الكافي لمواجهة نظام الرئيس زين العابدين بن علي وتالياً تحقيق طموحهم الاكبر المتمثل في تسلم السلطة وقيادة شؤون الدولة التونسية. ويبدو لي انه من الضروري تحذيرهم من مثل هذا التحالف قبل ان يجروا على انفسهم وعلى البلاد برمتها كوارث وفواجع قاتلة ومهلكة. فحركة النهضة لم تكن في يوم من الايام حركة تونسية، إذ ان الباحث في تاريخ تونس الحديث سرعان ما يستنتج انه لا وجود لاي حركة دينية في المجال السياسي وان رجال الدين الكبار من امثال الشيخ الفاضل بن عاشور كانوا حريصين دائما على الانصهار في الاحزاب والمنظمات الوطنية، ودعمها. معنى هذا انه لا جذور لحركة النهضة في التاريخ السياسي والاجتماعي والثقافي الحديث للبلاد التونسية، وان ظهورها في نهاية السبعينات كان نتيجة الازمة السياسية الخانقة التي كانت تتخبط فيها البلاد، خصوصا عقب ضرب الاتحاد العام التونسي للشغل في يناير/ جانفي 1978، الذي خلف فراغا سياسيا هائلا في البلاد سعى الشيخ راشد الغنوشي وجماعته الى ملئه بالخطب الملتهبة في مساجد المدينة العتيقة بالعاصمة. بالاضافة الى هذا، نحن لا نعثر في التراث الديني التونسي على اي اثر لادبيات حركة النهضة التونسية السياسية والفكرية. واذا ما نحن ابتغينا فهمها وتمحيصها فانه يجدر بنا ان نستند الى ادبيات حركات دينية اخرى نشأت في بلاد المشرق بالخصوص، مثل حركة الاخوان المسلمين في مصر. وهذا ما يفسر قصر النظر السياسي الذي طبع توجهاتها في البداية وجعل قادتها يتصورون انه بامكانهم نسف المعجزات الكبيرة التي حققها المجتمع التونسي، خصوصا في مجال تحرر المرأة. والاخطر من كل هذا قاد البعض الى الدعوة الى العنف لمواجهة نظام الرئيس بورقيبة ثم الرئيس بن علي في ما بعد. وهذا امر يتنافى مع طبائع التونسيين الذين دأبوا سواء خلال العهد الاستعماري او بعده على نبذ العنف، وعلى كسب حقوقهم بالحوار وبالنضال السلمي والمشروع، الشيء الذي جنبهم المآسي التي ضربت العديد من البلدان العربية الاخرى.

وقد يعود تسابق بعض زعماء المعارضة الى التحالف مع حركة النهضة عائدا الى ان زعيمها الشيخ راشد الغنوشي بدأ خلال السنوات الاخيرة ينتهج خطابا معتدلا، بل غاية في الاعتدال، غير اني ما أظن هذا إلا مناورة جديدة من جانبه. واكبر دليل على ذلك هو انه لم يتفوه حتى هذه الساعة بأي كلمة تدين الجرائم التي يرتكبها الاصوليون المتطرفون في الجزائر في حق النساء والاطفال والشيوخ والمثقفين. كما انه ظل ساكتا عما يجري في افغانستان في ظل حركة طالبان وعن جرائم اخرى يرتكبها من هم على نفس خطه الايديولوجي والفكري. وارى انه من الاسلم لزعماء المعارضة التونسية عدم الانجراف وراء الخطاب المعتدل لجماعة النهضة وإلا فإنهم سيدفعون الثمن غاليا تماما مثلما كان الحال بالنسبة للمعارضين في ايران الذين هللوا لقدوم من عمل فيهم في ما بعد ذبحا وتقتيلا.

نحن نعلم، وزعماء المعارضة التونسية يعلمون ايضا ان القوتين السياسيتين الاساسيتين في البلاد هما الحزب الحاكم، اي التجمع الديمقراطي الدستوري والاتحاد العام التونسي للشغل، وان حركات المعارضة لا تزال هشة وضعيفة ومشتتة. غير ان هذا لا يعني انه لا حق لهذه الحركات في المطالبة بحقوقها المشروعة في الوجود وفي التعبير عن رأيها في شؤون البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها، شرط ان يتم ذلك في ظل احترام المكتسبات التي حققها المجتمع التونسي في مجالات عدة، وايضا في ظل الاستناد الى الخصوصية التونسية. واعتقد ان العمل الاساسي المناط بعهدتها راهنا هو توحيد صفوفها، والعمل على صياغة برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي يتماشى مع طموحات التونسيين والتونسيات. اما ان تجعل من العداء لنظام بن علي برنامجا سياسيا اساسيا بالنسبة لها حتى لو كلفها ذلك التحالف مع الحركات الشيوعية، والغريبة عن روح المجتمع التونسي، فإن هذا لن يفيدها في شيء، بل سيفتتها، ويرمي بها في مزبلة التاريخ.