جدوى (التوازن) في السياسة الخارجية

TT

أوربا وأمريكا حليفان، يرتكز حلفهما على أساس ومفاهيم مشتركة منها: وحدة اللون والديانة والمواريث الحضارية.. والاتحاد في مواجهة المخاطر التي تتهدد الجميع. مثال ذلك: خطرا الحربين العالميتين، الأولى والثانية، وخطر الاتحاد السوفيتي (سابقا). ومع وجود هذه الأسس والقضايا المشتركة، فان الاختلاف لا يبرح ينشب بين الطرفين، في مجالات: التجارة العالمية.. والأغذية المعالجة وراثياً.. والبيئة (بروتوكول كيوتو المتعلق بالاحتباس الحراري على وجه التخصيص) وحقوق الانسان.. وبرنامج الدرع الصاروخي.

وليس السؤال هنا: كيف يتفادى الناس الخلاف السياسي، فالناس لا يزالون مختلفين في السياسة وغيرها. وانما السؤال هو: كيف يمكن اقامة توازن بين المتفق عليه والمختلف فيه؟

ان من خصائص (السياسة العملية): انها معقدة مركبة غير سلسة وغير بسيطة. ولو كانت غير ذلك لاستطاعها كل احد ذي تفكير سطحي او بسيط او ساذج.

من السهل: ان تعادي باطلاق، إذ ان هذا أمر لا يكلف المرء إلا اطلاق غريزته الغضبية دون قيود، او سقف، او حدود، او اعتبار للمصالح الحيوية.

ومن السهل ان تعانق باطلاق، اذ ان هذا أمر لا يكلف المرء الا اطلاق عاطفته الى أقصى المدى، في أودية الحب والغرام والهيام.. ولئن اتسعت دوائر الشعر والأندية الأدبية والإعلام المهتاج لهذا النوع من الغضب والرضا، والنأي والاقتراب، فإن دائرة السياسة العملية لا تتسع لذلك.

وباقرار: أن السياسة، بوجه عام، معقدة مركبة، يتقرر ـ في اللحظة ذاتها ـ: ان السياسة الخارجية أشد تعقيدا وتركيبا، ذلك ان الأولى تتصل بالذات التي ترتفع معدلات او احتمالات السيطرة عليها. اما الثانية فتتعلق بالغير او الآخر الذي من غير المستطاع السيطرة على تفكيره وقراره وحركته.

في السياسة الخارجية، في عصرنا هذا، في عالمنا هذا، يتوجب اتخاذ القرار، وتنظيم الحركة، وتعزيز الركض السياسي والدبلوماسي والاعلامي وفق رؤية متكاملة تتوازن فيها المصالح والمبادئ، توازنا لا يفرط في المصلحة، ولا يضحي بمبدأ.

مثلا: ان العرب والصهيونية كفرسي سباق.. ومضمار السباق هو العالم كله.. والخيارات المتاحة في هذه الظروف ثلاثة: خيار الجمود عند النقطة الراهنة، وهو خيار قاتل، وخيار الانسحاب من العالم، وهو خيار قاتل كذلك.. وخيار الاستمرار في المنافسة بمزيد من الركض، والتصميم، وطول النّفَس. وهو الخيار الضروري لمن يريد أن يحيا، بل يفوز.

وكتطبيق لهذا المثل نقول: لا يستطيع عاقل يمارس السياسة العملية او يقدرها او يعتبرها: ان ينكر، ان الولايات المتحدة الأمريكية قوة عظمى، اقتصادية، وعلمية، وعسكرية، وإعلامية (بغض النظر عن الاختلاف حول العمر الزمني المفترض لهذه القوة في المستقبل).

فكيف تكون العلاقة مع القوة العظمى؟

إن الشنآن المطلق مع الولايات المتحدة، يقدم خدمة مجانية للعدو الصهيوني من حيث نطاق حرية حركته وكسبه السياسي والاستراتيجي، بمعنى: أن تصبح الساحة الأمريكية فراغا زمنيا ومكانيا له وحده.. ولا ريب ان العدو يخطط لهذا الهدف ويغري العرب بمساعدته على بلوغه. وإنما يكون الاغراء والتوريط بأن يندفع العرب في سياسة الشنآن إلى أبعد حد، فيقدمون بهذا السلوك خدمة مجانية لعدوهم.. في حين ان السياسة العملية تقضي ليس فقط بتسجيل مكاسب سياسية للذات، وإنما تقضي ـ كذلك ـ بالاجتهاد المتنوع في حرمان العدو من المكاسب السياسية والاستراتيجية التي تعينه على الظلم والعدوان.

الموقف المقابل للشنآن هو: السكوت على أخطاء الولايات المتحدة.. فأكثر هذه الأخطاء، وأشدها أذى للعرب هو: السياسة الامريكية المؤيدة دون تحفظ لباطل المؤسسة الصهيونية وظلمها ونازيتها، وهي سياسة تتمثل في الدعم التام للكيان الصهيوني: الدعم المادي والمعنوي.. وتوفير السند السياسي لجرائمه عن طريق (الفيتو) وغيره.. وتبني المفاهيم الصهيونية للنزاع او الصراع.. والاصرار على ان يكون الكيان الصهيوني متفوقا عسكريا أبدا على العرب أجمعين.

ان السكوت على هذه الاخطاء الامريكية: خدمة مجانية للعدو الصهيوني ايضا.. فموجز هذه الاخطاء: إهدار حقوق العرب.. وتشجيع العدوان الصهيوني على الاستمرار والاستفحال، وهي كلها مواقف تخدم الصهيونية، وتخذل العرب.

واذا كان الشنآن المطلق لأمريكا سياسة تخدم العدو، واذا كان السكوت على اخطاء امريكا يؤدي الى النتيجة ذاتها... فما الحل إذن؟

الحل هو: الحضور القوي في الآفاق الأمريكية: داخل أمريكا وحول العالم، حضورا يحرم العدو من فرص جعل الساحة الأمريكية فراغا زمنيا ومكانيا له وحده، وذلك عبر شبكة ذكية ونشطة من العلاقات والمبادرات: الفكرية، والإعلامية، والاقتصادية، والسياسية، والحضارية المتنوعة.

والحل هو: نقد السياسات الأمريكية الخاطئة باستمرار.. فأمريكا ـ كدولة كبرى مؤثرة ـ لا تحتاج الى النفط وحده ـ مثلا ـ بل تحتاج الى الرأي والمشورة: الإقليمية والعالمية. فمن التأليه لأمريكا: النظر اليها على انها (معصومة)، او قادرة على احتكار الصواب في كل شيء.. وإن مما أتلف السياسة الخارجية العربية، في حقب متتابعة هو: سيادة ذهنيتين على هذه السياسة: ذهنية الشنآن لكل ما هو أمريكي (كرد فعل على الأخطاء الأمريكية، او كخدمة ايديولوجية أو سياسية لكتلة دولية اخرى).. وذهنية الهيام بأمريكا، والتبعية لها، والعمل على غشها، بمعنى: أن تقدم لها تقارير من ساسة ومثقفين تزين لها اخطاءها، وتصب في وعيها أكذوبة ان العرب جميعا (متيّمون) بحب أمريكا باستثناء فلول اليسار، وتيارات المتطرفين دينيا.. ولعله بدافع من الإحساس بوطأة هذا الغش، عمد رئيس الاستخبارات الأمريكية (جورج تينيت) الى تكوين لجنة خاصة مهمتها: التعرف على الأسباب الجوهرية وراء موجة الكراهية العامة لأمريكا في الوطن العربي، بفئاته ومستوياته كافة.

في ضوء الوسطية المطلوبة بين ذهان الشنآن، وذهان الهيام والغش او الاغضاء عن الاخطاء الأمريكية، تتبدى أهمية كلام ولي العهد السعودي الأمير عبد الله بن عبد العزيز الذي أدلى به لمجلة «دير شبيغل» الألمانية، ونشر في الأسبوع الماضي. ففيما يتعلق بالموضوع الذي بين أيدينا ـ وهو العلاقة المتوازنة مع الولايات المتحدة الامريكية ـ قال الأمير عبد الله: «لا أظن انني اشاطرك الرأي فيما ذهبت اليه (كان سؤال محرر المجلة هو: نلاحظ ان هناك نوعا من التنافر بين الرياض وواشنطن). فما يربطنا بالولايات المتحدة من صداقة ومصالح هو اكبر من ان يصل الى حد التنافر. بطبيعة الحال رؤى الدولتين واجتهاداتهما قد تختلف من وقت لآخر. وهذا طبيعي في العلاقات بين الدول حتى بين أقرب الحلفاء. لكننا نعتقد ان الحوار مع الولايات المتحدة، ومحاولة ايصال الحقائق الى الادارة والشعب الأمريكي، هو واجب وضرورة يمليها واقع الأمور. فنحن الذين نعايش آلام إخواننا الفلسطينيين، ونكتوي بنيران حروبها ومآسيها. ولن يكون للصداقة معنى او هدف، اذا لم يستطع احد طرفيها: أن يضع الصورة كاملة أمام الطرف الآخر، وان ينبهه الى ما يحيط بالمنطقة من مخاطر لا يعلم الا الله مدى ما يمكن ان تلحقه من أضرار.. المنطقة اليوم تقع فوق برميل من البارود القابل للتفجر. وكل تراخ او تهاون في نزع فتيل هذا البارود، لن يؤذي الفلسطينيين وحدهم، بل سيطال أذاه المنطقة ككل، وربما العالم بأسره. ثم ان الولايات المتحدة تحتل اليوم مكانة مميزة كزعيمة للنظام العالمي. وهذا الدور يملي عليها (شاءت أم أبت) ضرورة التصدي للأزمات قبل ان تستفحل. هذا هو فهمنا للصداقة الحقيقية.. صداقة تقوم على الحوار والمكاشفة والمصارحة ونحن نقول دائماً: صديقك من صَدَقَك لا من صدَّقَك».

هذا كلام حر شريف وعاقل ـ مبدئي وواقعي ـ متحرر من ذهانات: الصدام الاحمق، والتبعية الذليلة.. وجوهر هذا الكلام وعماده: ألا شنآن نزق يهدر المصالح، ويخدم العدو مجانا.. ولا مجاملة منافقة أو سكوت على الاخطاء ينزل الضرر المشترك بالجميع.

ويستند الموقف المتوازن للأمير عبد الله الى (سوابق) استراتيجية وسياسية ـ في العلاقات الدولية ـ ينبغي استرجاعها واستحضارها ابتغاء تجديد الوعي بها.

إن الملك عبد العزيز هو مؤسس العلاقات الحيوية بين المملكة وامريكا، وهو الذي حرص على تطورها ونمائها، من خلال عقود متتابعة من الزمن.

والملك عبد العزيز هو نفسه الذي كان يصارح الأمريكيين بما ينبغي ان يصارحوا به دون مجاملة، ولا مداهنة.. وفي القضية نفسها، اي القضية الفلسطينية.

ولنقرأ ـ من جديد ـ هذه الكلمات العاقلة الحرة التي تترجم موقفا عزيزا راشدا في العلاقات الدولية او الشؤون الخارجية.. يقول الملك العربي الحر: «وإذا كان منطق الأشياء يطبق على العموم، ولا يكال بمكيالين والوزن بميزانين، فالحق والانصاف أبلج لذي عينين. فإننا نرى رئيس الولايات المتحدة (ترومان) يطلب دخول مائة الف صهيوني الى فلسطين الضيقة (المساحة) باسم الانسانية والرحمة على حساب العرب الضعفاء.. أنا صديق لبريطانيا، وصديق لأمريكا، وسياستي قائمة على تحسين العلاقة مع هاتين الدولتين، بل مع سائر دول العالم، وقائمة على تحسين السياسة بين العرب وهاتين الدولتين ايضا. ولا اريد ان تضطرني الأيام ـ بالرغم عنا وبغير ارادتنا ـ الى ان نتعادى مع بريطانيا وأمريكا. وأحب ان تكونوا على يقين بأنه اذا استمرت هذه السياسة في استمرار الهجرة (الصهيونية ) وبيع الأراضي ومنع العرب من حقوقهم الطبيعية والتي وُعِدوا بالمحافظة عليها، فإن الحكومتين البريطانية والأمريكية لا تستهدفان لنقمة العرب وحدهم فحسب، بل انهما تستهدفان لنقمة كل من يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله من عرب وعجم، وهند وسند وصين، وكل مسلم على وجه الكرة الأرضية من مشرق الأرض الى مغربها. وهذا لا مصلحة لأحد منه، وفيه الضرر كل الضرر على المسلمين والعرب، وعلى بريطانيا وأمريكا. والصهيونيون لا يهمهم مصلحة بريطانيا ولا امريكا ولا العرب: لا يهمهم الا مصلحة أنفسهم».. وفي خطاب مؤرخ بـ29 نوفمبر 1938، وموجه من الملك عبد العزيز الى الرئيس الامريكي (روزفلت)، نقرأ هذا الموقف الصريح: «لقد اطلعنا على ما أذيع عن موقف حكومة الولايات المتحدة في مناصرة اليهود بفلسطين. وبالنظر لتمسك الأمة الأمريكية الحرة بأعرق التقاليد الديمقراطية المؤسسة على الحق والعدل ونصرة الأمم المغلوبة، ونظرا للصلات الودية بين مملكتنا وحكومة الولايات المتحدة، فقد أردنا ان نلفت نظركم الى قضية العرب في فلسطين وبيان حقهم المشروع فيها.. لقد ظهر لنا من البيان الذي نشر عن موقف أمريكا: ان قضية فلسطين قد نظر اليها من وجهة نظر واحدة، هي وجهة نظر اليهود والصهيونية، وأهملت وجهات نظر العرب، وقد رأينا من آثار الدعايات الصهيونية الواسعة النطاق: ان الشعب الامريكي الديمقراطي، قد ضلّل تضليلا عظيما أدى الى اعتبار مناصرة اليهود على سحق العرب في فلسطين عملا انسانيا، في حين ان مثل ذلك ظلم فادح وجه إلى شعب آمن في بلاده.. ان عرب فلسطين، ومن ورائهم سائر العرب، وسائر العالم الإسلامي، يطالبون بحقهم، ويدافعون عن بلادهم ضد دخلاء عنهم وعنها.. ومن المستحيل إقرار السلام في فلسطين إذا لم ينل العرب حقوقهم».

والعلاقات المتوازنة ليست مطلبا للعقلاء وحدهم، بل هي مطلب ـ كذلك ـ لعقلاء أمريكا أنفسهم، وهي مطلب مبطن بالنقد والتقويم. يقول (بول جونسون): «من دروس التاريخ وعبره ان الحضارة ـ أي حضارة ـ لا يمكن ان تؤخذ باعتبارها أمرا مسلما به. ودوامها لا يُستطاع أبدا توكيده. فهناك دائما عصر أسود ينتظرك وراء الباب إن أنت اسأت اللعب بالاوراق التي بين يديك، أو اذا اقترفت من الاخطاء عددا كافيا». والطرف الشجاع النبيل ـ في العلاقة ـ هو الذي يسهم بالنقد في تقليل عدد الأخطاء الكافية للتردي والبوار.