كي تختفي سنوات الرصاص من العالم العربي

TT

لأن الأخبار الباعثة على التفاؤل في العالم العربي أصبحت نادرة في هذا الزمان، فإن إعلان المغرب عن طي صفحة سجل التعذيب بدا لي خبرا مبهجاً، بدد بعض الكآبة التي أصبحت من التداعيات اليومية لقراءة صحف الصباح. لا أنكر أنني فرحت مرتين لما تحقق في مسابقات كأس آسيا لكرة القدم، مرة لأن العرب فازوا بالكأس، ومرة ثانية لأن العراق كان الفريق الفائز، لكن هذه كانت لحظة فرح، نسيتها حين قلبت صفحة الجريدة ووقعت على بقية أخبار العراق الذي أرجو ألا يدرج في أدبياتنا باعتباره بلد المليون قتيل.

استأذن في تلخيص التقرير الإخباري الذي نشرته «الشرق الأوسط» على صدر صفحتها الأولى يوم الأحد الماضي (5/7) علكم تشاركونني جرعة التفاؤل والأمل. فقد احتوى التقرير على النقاط التالية:

* عقد رئيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، السيد احمد الحرزني، مؤتمرا صحفيا في الرباط أعلن فيه انه اكتمل ـ تقريبا ـ دفع التعويضات الفردية للمتضررين من انتهاكات حقوق الإنسان خلال الفترة ما بين عام 1960 و 1999، التي أصبحت توصف في الأدبيات المغربية بأنها «سنوات الرصاص».

* قدر عدد الذين استفادوا من التعويضات بـ 23 ألفا و676 شخصاً، وزع عليهم نحو 1.56 مليار درهم مغربي (140 مليون يورو). وقد سلمت تلك التعويضات للضحايا وأهاليهم. وتم في المؤتمر الصحفي تسليم خمسة منهم درهما واحدا، اكتفوا بالمطالبة به كتعويض رمزي.

* هناك 12 ألف عائلة لضحايا سابقين سوف يستفيدون من التأمين الصحي، بناء على اتفاق أبرمته الحكومة مع تعاونية التأمين المغربية.

* قال الحرزني، وهو معتقل سياسي سابق، إن الأهم من التعويض النقدي الذي سلم للضحايا وأسرهم، هو اعتراف السلطة بالتجاوزات الخطيرة التي ارتكبت بحق الأفراد والمجموعات في تلك الفترة، واعتذارها عن تلك التجاوزات.

لست في موقف يسمح لي بالتثبت من مدى دقة المعلومات، ولا اعرف إن كانت صفحة سجل التعذيب قد طويت تماما أم أن طي الصفحة مقصور فقط على «سنوات الرصاص»، وهي المرحلة التي توحشت فيها أجهزة الأمن المغربية، وصار يضرب بها المثل في القسوة والبطش بالمعارضين السياسيين بوجه أخص. لكن مع كل ذلك لا أخفي حفاوة بالشجاعة الكامنة في الفكرة؛ وهي حفاوة عبرت عنها في أكثر من مناسبة. ليس فقط لأن إطلاق الفكرة وتنفيذها ولو بنسبة 50% أمر جدير بالتقدير والاحترام بحد ذاته، ولكن أيضا لأن سمعة العالم العربي في مجال انتهاكات حقوق الإنسان في الحضيض. وبالتالي فأي درجة من احترام تلك الحقوق تغدو خبرا سارا وباعثا على التفاؤل.

قبل أيام قرأنا في الصحف حديث الطبيب الفلسطيني الذي اتهم في قضية الممرضات البلغاريات وأطلق سراحه مؤخراً، عن صور التعذيب البشعة التي تعرض لها خلال سنوات السجن. وفي يوم نشر خبر طي صفحة سجل التعذيب في المغرب، كانت بعض الصحف المصرية تتحدث عن الإبلاغ عن 16 واقعة تعذيب في أقسام الشرطة خلال شهر يوليو/تموز، بمعدل حالة كل يومين. وهو ما رصدته منظمات حقوق الإنسان، بعدما تعددت في الآونة الأخيرة حوادث التعذيب التي أفاضت الصحف المستقلة والمعارضة في تفاصيلها. وكان من بينها إقدام احد ضباط الشرطة «في واحة سيوه» على إشعال النار في جسد شاب اتهم في حادث سرقة، مستهدفا بذلك إجباره على الاعتراف. وبعده بأيام قليلة اعتدى احد الضباط على شاب آخر في إحدى محافظات الدلتا (الدقهلية)، مما أدى إلى وفاته من جراء التعذيب والضرب. وفي الحالتين أدى ذلك إلى إثارة الأهالي واشتباكهم مع الشرطة، مما صدم الرأي العام واستدعى في الوعي العام ملف «سنوات الرصاص» التي لم يطو سجلها بعد. ومما لاحظته منظمات حقوق الإنسان أن عمليات التعذيب وقعت في أقسام الشرطة، الأمر الذي أثار قلق الكثيرين على المحتجزين في السجون والمعتقلات. ذلك ان تلك الأقسام واقعة في قلب المدن والأحياء. وما يجري فيها يظل في متناول اطلاع الرأي العام (وهو ما حدث بالفعل) في حين أن السجون والمعتقلات بعيدة عن الأعين، بحكم وجودها في أطراف المدن أو المناطق النائية. لكن الذي لا يقل عن ذلك أهمية أن ضحايا التعذيب في الحوادث التي تم رصدها كانوا من المواطنين العاديين، ولم يكونوا من المعارضين السياسيين. وخطورة هذه الملاحظة تكمن في أنها تعني اتساع الدائرة وتحول مثل هذه الانتهاكات من ممارسات استثنائية بحق المعارضين السياسيين، إلى قاعدة للتعامل مع عموم المشتبهين والمتهمين، وأسلوب مستقر في استنطاقهم. وهو ما يسوغ لنا أن نقول إن تعذيب البشر أصبح جزءا من ثقافة أجهزة الأمن.

قبل أن استطرد في تحليل الظاهرة، ألفت الانتباه إلى أن ما يحدث في مصر ليس استثناء في العالم العربي، ولكن تقارير منظمات حقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية حافلة بالشهادات التي تسجل انتهاكات حقوق الإنسان في أغلب دول المنطقة، وإذا كانت هناك تفصيلات منشورة في الصحف المصرية حول الموضوع، فذلك راجع إلى أن ثمة هامشا لحرية الكلام والنقد في مصر، يحتمل نشر هذه الأخبار أولا بأول، والتفصيل في وقائعها من خلال استطلاع آراء الضحايا واستعراض تقارير المنظمات الأهلية، واستطلاع آراء الخبراء والمحللين في صددها.

في هذا السياق ينبغي أن نقر بأن انتهاكات حقوق الإنسان والتوسع في عمليات التعذيب بوجه أخص جرى غض الطرف عنها واحتمالها في أعقاب أحداث سبتمبر(أيلول) 2001. ولم يعد سرا أن الولايات المتحدة رعت هذا التحول وشجعته بدعوى شن الحرب العالمية ضد الإرهاب؛ فمن جانبها مارست أنواعا ودرجات من التعذيب، كما أنها استعانت بخبرات العالم العربي وكفاءاته المشهورة في الاستنطاق، فأرسلت أعدادا غير معروفة العدد إلى أربع عواصم عربية ـ كما ذكرت صحيفة «واشنطن بوست» ـ للقيام بما يلزم في هذا الصدد، خصوصا الممارسات والانتهاكات التي لا ترغب الولايات المتحدة في أن تمارسها على أرضها وبواسطة أجهزتها، مفضلة أن يتحمل الآخر أية مسؤولية قانونية أو جزائية عن ذلك في المستقبل.

ينبغي أن نقر أيضا بأن بعض البلدان العربية استخدمت لافتة «الحرب ضد الإرهاب» في تصفية معارضيها وتأديبهم، الأمر الذي كان له دوره في توسيع نطاق الانتهاكات، وإسكات الأصوات الناقدة لممارساتها. لأنه طالما أن تلك الإجراءات ظلت تمارس باسم الحرب على الإرهاب، فقد تردد كثيرون في انتقادها حتى لا يتم تصنيفهم ضمن المدافعين عن الإرهاب أو الراعين للإرهابيين.

ثمة اعتبار خاص بالساحة المصرية، يتمثل في فرض العمل بقوانين الطوارئ لفترة تجاوزت ربع قرن. وهي القوانين التي أطلقت يد أجهزة الأمن في الضبط والاعتقال وسمحت بإجراء المحاكمات العسكرية والاستثنائية. الأمر الذي أشاع بين العاملين في تلك الأجهزة ما أصبح يوصف في مصر بإدمان الطوارئ، الذي حول الانتهاكات إلى ممارسات عادية، يغض الطرف عنها دائماً. وفي الحالات الصارخة التي تتحدث عنها الصحف فان بعض إجراءات المحاسبة والتحقيق تتم، وتنتهي إما بالبراءة أو بإجراءات لا تتجاوز «شد الأذن».

هذه الأجواء تدفع واحدا مثلي إلى الحفاوة بأي معالجة نزيهة لذلك الملف البائس. الذي يسيء إلى الأنظمة بقدر إساءته إلى المجتمعات العربية. وحين تذهب تلك المعالجة إلى حد الاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه وتعويض ضحاياه، فإننا نصبح إزاء سلوك متحضر، ونهج فريد لا نعرف له مثيلا في العالم العربي. وقد كانت جنوب أفريقيا رائدة في طرح فكرة الحقيقة والمصالحة، في أعقاب سقوط نظامها العنصري. حيث كانت تلك الصيغة سبيلا إلى معالجة جراح الماضي ومراراته، الأمر الذي كان له دوره في إنجاح الانتقال إلى السلطة وفي توفير أسباب الاستقرار للمجتمع.

إن الباحث لا يستطيع أن يفصل بين ذلك التطور الذي شهدته المملكة المغربية، وبين الحيوية التي يتمتع بها المجتمع المدني، وبين الانفراج الديمقراطي النسبي الحاصل هناك. ولا بد أن يسجل للمغرب في هذا السياق انه من الدول العربية القليلة التي سمحت بتعددية سياسية حقيقية، خلت من مساعي الإقصاء والاستئصال خصوصا للتيار الإسلامي. وهو ما وفر فرصة جيدة لمشاركة الأحزاب ذات التوجه الإسلامي، وفي مقدمتها حزب العدالة والتنمية، الذي يتوقع له المتابعون حظوظا جيدة في الانتخابات النيابية التي تجري هناك في الشهر القادم.

بطبيعة الحال، لم يخل الأمر من مضايقات وضغوط وتحالفات وربما أيضا مؤامرات لإضعاف فرص الحزب في النجاح، إلا أن ذلك يمكن احتماله إذا ما ظل في إطار التنافس السياسي السلمي، ناهيك عن أن هذا الوضع بكل ما فيه يظل أفضل من أوضاع أخرى في عدة أقطار عربية مغربية وشرقية.

ليس مصادفة ذلك التزامن بين الانفراج الديمقراطي في المغرب وبين مسعى طي صفحة التعذيب وتجاوز أحزان سنوات الرصاص، ولعلي لا أبالغ أن ثمة علاقة وثيقة بين الحالتين، هي اقرب ما تكون إلى علاقة السبب بالنتيجة ـ بمعنى الحالة الديمقراطية النسبية التي يعيش في ظلها المغرب كانت العنصر الضاغط الذي أدى إلى إطلاق فكرة الإنصاف والمصالحة، والوصول إلى طي صفحة سجل التعذيب. وإذا صح ذلك، فربما كان حافزا لنا لكي نشدد على أن ظاهرة التعذيب في العالم العربي لن يحسم أمرها ولن يتم تجاوزها إلا إذا استطعنا أن نحل المشكل الديمقراطي ونخرج من أزمته. وهذا الحل لن يوهب إلى مجتمعاتنا أو يهدى إليها في إحدى المناسبات السعيدة، ولكن يستخلص بقوة المجتمع المدني وضغوط أبنائه من خلال نضالهم السلمي، الذي لا يحيد عن الهدف ولا يلين بمضي الوقت. وعندئذ فقط نتفاءل بيوم تختفي فيه سنوات الرصاص في كل العالم العربي.