في معنى المقاومة!

TT

فقدت الكلمات معناها في منطقتنا العربية بطريقة تتحدى العقول وأصحاب الحس السليم وما تواضع عليه العالم من تعريفات للمفاهيم حتى بتنا نعيش وسط دنيا لا يعرفها أحد سوانا. وفي وقت من الأوقات كان الظن أن جماعة الغرب هم الذين يختلفون عنا في النظر للوجود لأنهم في النهاية كانوا من المستعمرين وأصحاب الهوى الإسرائيلي؛ ولكن مع مرور الزمن أصبح لدينا قاموسنا الخاص نعرف به الإرهاب والمقاومة والثورة والإصلاح والشرعية والقومية وغيرها يختلف عن ذلك الذى يعرفه الهنود والصينيون والروس والأتراك وكل من كان له ملل ونحل وقوميات أخرى.

وفي الحقيقة فإننا كنا مثل بقية دول العالم نخضع لنفس قواميسه وتعريفاته حتى الخمسينيات من القرن الماضي عندما نبت في المشرق العربي مدارس قومية جديدة أخذت هذه المفاهيم كلها ونزعت عنها مقامها الإنساني وآفاقها العالمية. ومع الستينيات كانت الفاعلية قد نزعت منها تماما كما ينزع الدسم من الحليب حتى لا يبقى منه شيء له فائدة. وكان متصورا أن الكارثة العظمى في يونيو 1967 سوف تعيد العقول إلى مكانها، وسوف نعيد الإنجاز والفاعلية إلى آفاق المصطلحات، ولكن «الجملة الثورية» المحاطة بالطفولة اليسارية ما لبثت أن مدت آفاقها المشرقية العربية لكى تصل مع نهاية القرن إلى الخطاب الدينى بأكمله بعد أن شهدت السبعينيات والثمانينيات انتشار الإسلام السياسي وسيطرته على المجال «الثوري». وعندما تمدد الإعلام العربي طولا وعرضا من الصحافة المكتوبة إلى الفضائيات التلفزيونية كان التسطيح قد بلغ مبلغة فأصبح من يحررون الأرض من الخونة بينما صار من تسببوا في احتلالها أو إعادة احتلالها من الأحرار.

وخلال هذه الفترة التى جرت فيها الجريمة الفكرية كان تعبير "المقاومة" قد صار مقتصرا على الأعلى صوتا الملتهبة حنجرته بما يكفي من شعارات الإمبريالية والصهيونية والعمالة بعد نقعها في استراتيجيات الرفض والصمود والتصدي التي تعني في الواقع أن يبقى كل شيء على ما هو عليه وتبقى الأرض محتلة إلى الأبد. وخلال نفس الفترة كان الأكثر مقاومة هو الذي لا تنطلق من أرضه طلقة رصاصة واحدة بينما هو على استعداد للنضال حتى آخر فلسطيني طالما أن لديه ما يكفي من الكلمات عن الثورة والفورة. وفي وقت آخر صارت المقاومة هي الانتحار والقتل الجماعي والانتقام، ولكن دون علاقة حقيقية مع الهدف السياسي المطلوب تحقيقه وهو تحرير الأراضي العربية المحتلة. ولعل ذلك آخر فصول التفرقة بين جماعة حماس المتمردة في غزة، والسلطة الوطنية الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية المفوضة باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. فطالما كان شعار حماس هو المقاومة فإنها تقع في جانب الشرفاء حتى ولو توقفت عملياتها، أو إذا جاءت عملياتها الصاروخية فلن تعلم أبدا ما هي الإستراتيجية التي تخدمها، فقد توقف هدف التحرير عن كونه هدفا للعمل العسكري والسياسي وبقي الإعلان عنه وشفاء الغليل وشهوة الانتقام حتى ولو أدى كل ذلك إلى تكالب الأعداء علي الشعب الفلسطيني، أو أدى إلى حرمان القضية الفلسطينية من كل تعاطف عالمي.

وبعد أن انفصل العمل العسكري عن العمل السياسي، أصبح كل عمل سياسي نوعا من الاستسلام، وأصبح الاتهام سهلا لمحمود عباس وسلام فياض بالتواطؤ مع إسرائيل والولايات المتحدة والاستسلام لهما. وأصبحت المقاومة هي أن تبقى الأرض المحتلة على حالها، أما الخيانة فتكون عندما تعمل على استردادها أو تحاول انتهاز فرصة لاحت من خلال ظروف إقليمية ودولية مثل الفرصة الراهنة التي نقلت سلوك الولايات المتحدة نقلة كيفية تجاه الصراع العربي ـ الإسرائيلي خلال الأسابيع الأخيرة. لاحظ هنا حالة الهلع التي انتابت جماعة الحفاظ على الاحتلال واستخدامه تحت شعارات المقاومة في تصفية الدولة العربية الحديثة قبل مواجهة المحتل مواجهة واحدة منجزة وفاعلة. وعندما توالت التطورات الأخيرة من أول خطاب بوش حول الشرق الأوسط، وزيارة وفد الجامعة العربية لإسرائيل وحتى اجتماع شرم الشيخ لدول مجلس التعاون والأردن ومصر والولايات المتحدة كانت التعليقات التي توالت من أصحابنا هي ترقبوا الخديعة وتجاهلوا خطاب رئيس الدولة العظمى الوحيدة في العالم، لا تفعلوا شيئا حتى يقول الأعداء بوضوح أنهم سوف يسمحون فورا بحق العودة بل ربما يجهز كل إسرائيلي حقائبه ويرحل عن المنطقة، ولا تجهضوا المقاومة وكأن المقاومة – أى العمليات الانتحارية ـ مستعرة وتحرر قرية فلسطينية بعد أخرى.

هذه الحالة من الهلع والفزع من استئناف عملية السلام راجعة إلى تلك الحالة من الانحراف المفهومي الذي لا يجعل السياسة والدبلوماسية امتداد للحرب بوسائل أخرى، ولا يجعل العنف جزءا من منظومة سياسية توسع دائرة الحلفاء والأصدقاء، وتقلص ما بين الخصوم وحلفائهم وأصدقائهم. ولكن جماعتنا التى نست فكرة التحرير من الأصل مكتفية بزفرات الكلمة وآهات الشعارات ونغمات توزيع الاتهامات ذات اليمين وذات اليسار فإنها لا تستريح إلا كلما أضافت عدوا جديدا إلى قائمة أعدائنا، أو إذا جعلت خصما قديما عدوا دائما. وفي العموم فقدت الكلمات والتعبيرات والمفاهيم إنسانيتها، فالشعب الفلسطيني الذي يعيش عمليا على المعونات والهبات الدولية، والذى تمزقت أوصال مؤسساته وهيئاته، والذي يعيش في ظروف معيشية بالغة القسوة، أصبح غائبا تماما عن السياسة التي تقول بها حماس والجماعات الإسلامية الأخرى. وفي تاريخ حركات التحرر الوطني كانت الشعوب تعاني ظروف وعنت الاحتلال، ولكن هذه الحركات كانت تبذل أقصى ما تستطيع من أجل تخفيف هذا العنت وليس زيادته، وعندما يأتي لها شخص نظيف اليد وصاحب كفاءة اقتصادية مشهودة لها مثل الدكتور سلام فياض في الحالة الفلسطينية فإنه بالتأكيد يصبح في صفوف المقاومين الذين يعينون على الصمود في ظروف قاسية.

وعلى الأحوال فإن مثل هذا الانقلاب الفكري في مفاهيم المقاومة يشكل مفارقة كبرى وهو الذي يجعل محمود عباس وسلام فياض من المتواطئين وأولهما كان أول من حرر أراض فلسطينية من خلال اتفاق أسلو وثانيهما كان أول من وضع أساسا حقيقيا للاقتصاد الفلسطيني، بينما يجعل من الأبطال خالد مشعل المقيم في دمشق البعيدة وإسماعيل هنية الذي نزع غزة من اللحم الفلسطيني. ولكن الانقلابات الفكرية على الأرجح تشكل الموسيقى التصويرية لانقلابات واقعية أخرى قادمة لأنه لن يكون مسموحا استئناف العملية التفاوضية مرة أخرى، والقبول بأراض فلسطينية أخرى محررة يمكن للشعب الفلسطينى أن يديرها ويفرض حق تقرير مصيره عليها. فمثل هذه الحالة غير مقبولة، وكما جرى خلال العقدين السابقين فلن تكون مهمة المقاومة تحرير الأراضى المحتلة وإنما القيام بعمليات العنف اللازمة لإفساد العملية التفاوضية كلها. فبهذه الطريقة تمت عملية تدمير أسلو التي كانت أول عودة للمقاومين الفلسطينيين الحقيقيين إلى أراض محررة يمارسون فيها الحكم وتقرير المصير وتعليم الأولاد لأول مرة في التاريخ الفلسطيني.

وفي النهاية فإن التذكير بتعريف المقاومة ضروري، فهي الاستراتيجية السياسية والدبلوماسية والعسكرية لتحقيق التحرير للأراضي المحتلة من قبل عدو غاصب وقاس. وهي استراتيجية ليست معلقة في الهواء وإنما في إطار عالمي وإقليمي يضع محددات، ويطرح مخاطر، ويعطى فرصا لمن يستغلها. المقاومة ليست حفنة من الشعارات والاتهامات وقرع الطبول المجوفة في جنازات التاريخ، وإنما هي قبل كل شيء وبعده سياسة تغير واقعا غير مقبول، وتحقق إنجازا غير متاح، وتحافظ على أمة ولا تفرط فيها.