العراق.. كفى بالرياضة رمزاً

TT

لا يصعب على بلاد مثل العراق، على الرغم من تنوع المشارب وتعدد البيئات، أن تلد رمزاً يمثل قطب الرحى، له شأن دجلة والفرات، وماؤهما الجامع بين حضارتي الحجر والطين، وله شأن بغداد. ليست هناك قومية وديانة ومذهب وعشيرة إلا وجدت مغرساً لها فيها. وكي لا نبخس «الناس أشياءهم» أقول: لم تخل أرض العراق من شخوص لهم قلب وضمير الرافدين وبغداد، وموجودين حالياً تحت قبة البرلمان، وفي نواحي الدولة. نعم، هناك مَنْ يتعالى على انحيازه حتى لأسرته، ويتلمس سبل التعايش بدلاً من سبل الشتات. إذا هدأت النفوس، وشفيت من آلامها ونفضت عنها غِلها، ستجد رموزاً لا رمزاً واحداً يوحد أهل العراق، ليس بدموية الحجاج بن يوسف الثقفي (ت 95هـ)، ولا بإبادات وحروب صدام حسين (أُعدم 2007).

ألم تفرض الرياضة نفسها رمزاً في زمن شاذٍ، لا يشبه كل الأزمنة، السيادة فيه لسيف الفرقة والتجزئة؟ تجدني استوحيت عنوان المقال من لسان صاحب الصوت المألوف لآذان أهل العراق، معلقاً في سُوْح الملاعب، عندما سمعته يتحدث لقناة «الشرقية» بالفوز على كوريا الجنوبية. ما زالت صورته وابتسامته حاضرة في ذاكرتي، يوم حللت ببغداد قبل حوالي أربعين عاماً، طالباً، حديث العهد بها، مندهشاً من وسعها، وتزاحم الغرباء في طرقها، وأنا آتٍ من مكان متلاحم يُفرق فيه ساعي البريد الرسائل على الوجوه لا على العناوين.

ساعتها، قطع حيرتي رجل بالغ التهذيب والأناقة في مكتب بريد الباب الشرقي، وسط رصافة بغداد، قائلاً: تحتاج مساعدة؟ بعد أن لاحظني حائراً في ملء ورقة إرسال برقية إلى الأهل. قلت له: «لم أرسل من قبل برقية»! أخذ القلم وملأ المعلومات حسب المطلوب، وذهب حاملاً حقيبته، التي نسميها «دبلوماسية». وعند المساء شاهدته يطل من شاشة تلفزيون بغداد ببرنامجه الرياضي، فصحت: «هذا ساعدني اليوم بإرسال البرقية»! إنه مؤيد البدري! كم خدم هذا الرجل الرياضة والرياضيين، وكم أمتع الناس ببرنامجه، وظل وفياً لحرفيته! لذا لم يجد له مكاناً بعد تدهور الحال، وتحول نوادي الرياضة إلى ثكنات وغرف عذاب للاعبين، وها هو ما زال خارج المكان والاهتمام.

أَلفت بغداد الرياضة قديماً: سباقات في المصارعة والركض والسباحة، شجعها معز الدولة البويهي (ت 356هـ)، وقيل لإلهاء البغداديين (المجتمع العراقي في شعر القرن الرابع الهجري، عن المنتظم والكامل في التاريخ). وكان عَداء بغداد أو (ركاضَها)، حسب التسميات القديمة، بركة بن محمود الساعي (ت 628هـ) «سعى من واسط إلى بغداد في يوم وليلة، ومن تكريت إلى بغداد في يوم واحد، وحصل له بسبب ذلك مال كثير، وجاه عريض» (الحوادث الجامعة). وألفت بغداد لعبة الروزخانة لبناء الأجسام، وحلبات المصارعة، وكان مصارعها الأول عباس الديك (ت 1974)، الذي صرع مصارعين هنود وإيرانيين وبلغار، وأفرح العراقيين في الثلاثينيات فرحة عارمة، ما زالوا يتحدثون بها، مثلما أفرحهم اليوم فريق كرة القَدم. ولم تكن الدولة آنذاك تُهدي السيارات والأموال، فكرمته عند فوزه على المصارع الألماني (كريمر) بوظيفة كاتب بدائرة حكومية (الزورخانات البغدادية). إلا أن المصارعة فقدت بريقها عندما انشغل الجمهور العراقي بمصارعات عدنان القيسي، وفضيحة كذبه بترتيب من السلطة آنذاك (دولة الإذاعة).

لم تعرف أرض العراق كُرة القَدم وملاعبها، صاحبة أعظم جمهور اليوم، إلا بفضل البريطانيين في العشرينيات. وكان قانون الكُرة ببغداد يسمح بالاحتفاظ بمدرب ولاعب بريطانييَّن حتى تمكن العراقيون منها. وربما كان أول فريق عراقي يُشكل هو فريق الفوج السابع من الجيش العراقي (بغداد في العشرينيات). وسرعان ما توالدت الفرق الكروية بالمدارس والأحياء والمدن، ليتأسس اتحادها العام 1948، إلا أنها لم تنل كأساً دولية مثلما نالته في الفوز الأخير. وكأنه جاء رداً على مقاتل الرياضيين وهروبهم من البلاد، ورداً على تصريحات أصحاب عمائم وقادة ميليشيات ضدها، وفتوى تحريم ارتداء «الشورت»، الذي لا تكون لعبة القَدم من دونه. قُتل لاعب فريق الزوراء سعد عبد الواحد، ومدرب فريق التنس العراقي، واختطف أعضاء اللجنة الأوليمبية وبينهم رئيسها أحمد عبد الرؤوف السامرائي، المعروف بالحجية، وقتل الحكم الدولي لكرة الجرس للمكفوفين فادي عادل يوحنا، والقائمة تطول.

رفضت الرياضة الطائفية، وهدمت أسوار التمييز القومي، لأنها رياضة الجسد والعقل. إنه حقل من الحقول ظل نظيفاً من اللوثة، أميناً لهوية أو أمة عراقية. يُنبيك الفرح والمهرجان غير العادي أنه ليس احتفالاً بالفوز بحد ذاته، بل تعطش إلى خطاب الوئام، وانفعال الألفة، ورداً مكيناً على فتاوى استهزأت وأخرى هددت ووعدت ونفذت ضد الرياضة والرياضيين. بعد هذا ألا يكفى بالرياضة رمزاً لبلاد تَنثرها السياسة والحزبية الغِل المذهبي والتعنصر القومي رماداً؟

[email protected]