ذهب وصورة وجهه على حذائه!

TT

الناس يختلفون في طرائقهم ووسائلهم، وهذه حقيقة بديهية لا تحتاج إلى تأكيد واثبات، فهناك من الناس مثلاً من لا يطيقون رؤية شيء في غير موضعه الصحيح، في الوقت الذي فيه أناس آخرون لا يدرون أصلاً أن هناك شيئاً من الممكن أن يكون له موضع.

الصنف الأول نستطيع أن نطلق عليه مسمى: الصنف المرتب أو المنّظم، ويستحق أن نشيد به على وجه العموم ـ على شرط عدم المبالغة ـ لينقلب حب الترتيب والتنظيم إلى مرض، مثل ذلك الشخص الذي يقضي اغلب وقته في منزله بترتيب صالونه، وتعليق ملابسه ورصها يومياً حسب أطوالها وألوانها وأحجامها، ولا يسلم المطبخ و(طناجره وصوانيه) من نقلها من مكانها إلى مكان أليق.. وإذا ذهب مدعوا لأي منزل، لا بد ان يعدّل صورة على الحائط شاهدها مائلة (سنتيمترا واحدا) أو ينظف طفاية سجائر بها نتفة صغيرة من الرماد، أو لا يرتاح بالجلوس على مقعده لو انه رأى عدداً من (الكوش) ـ المخدات أو المساند التي توضع على الكنب ـ قد انزاحت من أماكنها أو وقعت على الأرض.

وقد شاهدت ذلك الشخص بأم عيني عندما دخل إلى احد المجالس، وكان مفروشاً (بالموكيت) السادة، وعندما لاحظ أن درجات اللون (البيج) قد اختلفت ـ وهذا شيء طبيعي عندما تدوس الأقدام أي سجاد من (الموكيت)، فما كان منه إلاّ أن توقف، ثم اخذ يمسح الموكيت بحذائه مجيئاً وذهاباً في خطوط منتظمة إلى أن جعل (وبره) باتجاه واحد، وعندما أصبح لونه من نفس الدرجة وكأنه خرج لتوه من المصنع تنهد وارتاح، وسلم على الحاضرين وجلس، غير انني ما أن تأكدت انه استقر على مقعده، نهضت خارجاً وأنا اسحب أقدامي فوق الموكيت بطريقة متعمدة، ولم اتركه إلاّ بعد أن أحدثت به خطوطاً متعرّجة.. ويقال والعهدة على الراوي أن زوجته قد انتقلت لها العدوى وأصيبت بمرض الترتيب والنظافة، فهي تزيح أثاث البيت يومياً ثم تعيد ترتيبه، وتغسل فناء المنزل بالماء والصابون كذلك يومياً، وأصبح من عادتها أن تمرر يدها على أي شيء تراه، والويل كل الويل لمستخدميها لو علقت (ذرة غبار) بيدها، وقد استفحلت بها تلك العادة إلى درجة أنها لو خرجت تتسوق فيدها تمررها على كل ما تراه من سيارات متوقفة، أو درابزين حديد في الشارع، أو واجهات زجاج الدكاكين.

ومن الناحية النفسية يعتقد أن مثل هذا الصنف لا يحاول ترتيب العالم الخارجي بقدر ما يحاول ترتيب نفسه ولكنه لا يستطيع، وقد ينطبق عليهم المثل القائل: حجة البليد مسح السّبورة.

وعكس هذا الصنف النظامي هناك الصنف الفوضوي، واذكر من هذا الصنف شاعرا مبدعا انتقل إلى رحمة الله، كان فوضوياً بدرجة امتياز، إذا دخلت شقته المتواضعة لا تدري أين تجلس، فالكتب والملابس والجرائد والطعام والأواني كلها مكدسة على الكراسي، وأكثر الأحيان عندما اذهب إليه كنت اختار الجلوس على الكتب.

وإذا عاتبته وهزأته وطلبت منه القليل من التنظيم ضحك بوجهي، وقبل أن نخرج يلبس (أي كلام) دون مراعاة لأي ذوق، والشيء الوحيد الذي يحرص عليه هو تلميع حذائه جيداً، وبدون مبالغة لم يمر عليّ في حياتي إنسان يحرص على تنظيف حذائه وتلميعه أكثر منه، ولا أنسى كلمته رحمه الله عندما قال لي: إنني من المستحيل أن اخرج قبل أن أشاهد صورة وجهي على حذائي من شدّة التلميع.

[email protected]