«ليلة سعيدة»

TT

سميت «مهنة المتاعب» لأنها صناعة قائمة على المنافسة والإبداع. يدخلها ألوف المجهولين ويلمع فيها قلة. وتدفع هذه القلة ثمناً مكابداً من أجل الاستمرار. ومن لا يتعب، يشقى. وفي هذه الصناعة ألف باب وألف نافذة وألف حديقة ومائة ألف هامش. ولا ترحم. لأنها مثل كل فن، معروضة على جميع الناس. ولا أعرف أنها أبقت على أي دعي حاول أن يتكبّر عليها. وأذكر ـ تكرارا ـ أن كامل مروة، رائد الحداثة، أو الصناعة، في الصحافة اللبنانية ألزم ابنه البكر، الزميل جميل، عاماً بعد عام، أن يبدأ تدريبه في المطبعة. فهذه مهنة تستحق ولا تورث. وعندما عاد عصام فريحة من الجامعة الأميركية في القاهرة، عينه سعيد فريحة «سكرتير» تحرير «الأنوار»، وأعطاه مسطرة قبل أن يعطيه قلماً. وظل جبران تويني، وحيد غسان تويني، يتدرب في أسبوعية «النهار العربي والدولي» ولا يدخل إلى «النهار» نفسها، سنوات طويلة. وعندما أصبح أخيراً رئيساً للتحرير، كنت بين الذين فرحوا له كثيراً وخافوا عليه. وكنت أذهب لزيارته مرة في الأسبوع. ولاحظت في البداية أنه يكتب افتتاحيته الأسبوعية بشيء من السرعة. وقلت في نفسي، كيف ستكون ردة فعله إن أنا أبديت له الملاحظة. وبعد تردد فاتحته ذات مرة. أرجع كرسيه إلى الوراء ووضع قلم الحبر الضخم على المكتب ثم قال بكل كِبر ونبل: ساعدني.

قلت له، لا ينفع أن يساعدك أحد. أعِد قراءة ما تكتب. وما مضت فترة وجيزة إلا وكان تواضع جبران تويني أمام الصحافة قد جعله الأكثر شعبية. وتحول الأسلوب المتسرع إلى متأن شديد. وكان حتى استشهاده، كلما جلس يكتب مقاله الافتتاحي، يطرح على زملائه عشرين سؤالا ويسأل عن عشرين فكرة. وحتى هذه اللحظة، لا يزال عملاق الصحافة اللبنانية غسان تويني، يرسل مقاله الافتتاحي إلى مَن يقرأه قبل أن يرسله إلى النشر. لا يمكن أن يرسل مقالا إلى المطبعة مباشرة من مكتبه، في صحيفة يملكها منذ ثلاثة أرباع القرن.

هذه هي الصناعة التي يتعلم فيها أهلها كل يوم. وتظهر فيها مطبوعات بلا حد، ثم تغيب بلا أثر. ويظهر فيها معلمون يغيبون ويظل حضورهم حضور الرواد. وكانت متعة لبنان اليومية ذات مرحلة العناوين التي يضعها لويس الحاج، رئيس تحرير «النهار». وكانت قاعدته أن العنوان حدث آخر. ولم يصدر عنه مرة عنوان معبأ بالبداهات أو باللعب السقيم على الألفاظ. وقد تذكرت ذلك العصر الجميل وأنا أرى العنوان الذي ودعت به «ليبراسيون» المخرج الإيطالي مايكل انجيلو انطونيوني بكلمة على مدى صفحتها الأولى: «ليلة سعيدة». وكان السينمائي الأسطوري قد صنع فيلما عنوانه، ببساطة، «الليلة». ليلة سعيدة لأساتذة العناوين.