الملك عبد الله بن عبد العزيز: الشخصية والقيادة والسياسات

TT

ما بين حرب تموز عام 2006، واتّفاق مكة أو عهدها بين الإخوة في فلسطين، فكّرت كثيراً في الكتابة عن الملك عبد الله بن عبد العزيز ونهضويته وسياسات المملكة في عهده. ولذلك فأنا شاكرٌ للظروف التي أتاحت لي الحديث في هذا الموضوع الجليل.

الكتابةُ عن الملك عبد الله بن عبد العزيز، وهو قائدٌ وصانع سياسات، تختلف عن كتابة الانطباعات الشخصية عن أحد الأعلام أو الأصدقاء. بيد أنّ المعرفة والانطباع الشخصيَّ عن جلالة الملك كانا متوافرَين لديّ منذ كان ولياً للعهد وقائداً للحرس الوطني. فقد قابلْتُهُ مراراً مع الرئيس رفيق الحريري في التسعينات، وجالسْتُهُ في المرتين اللتين زار فيهما بيروت، ونزل في ضيافة الرئيس الحريري. وقد تحدّثْتُ إلى عشراتٍ ممن عرفوه معرفةً متفاوتةً في العُمْق والطول، وكانت الانطباعات متقاربة: شخصية مستقيمة، تتوافر لها وفيها صفات الزعامة والقيادة، تُؤْثِرُ الصدق والصراحة على أيّ أمر آخر، كما تؤثر الفعلَ على الكلام، لكنه إذا تكلَّم فإنما يصدُرُ في كلامِه عن القلب. وتقعُ رؤيتُهُ العامّةُ على مقربةٍ من عقيدته أو أنها صادرةٌ عنها، وهي تتحرك بين الإسلام والعروبة، وإدارة الشأن العامّ بما يؤدي إلى تحسين شروط حياة الناس وظروفهم. وما نسيتُ له حتى اليوم الشجاعة ورحابة الأُفق في طرح مبادرته للسلام في مؤتمر القمة ببيروت عام 2002 بعد أحداث أيلول (سبتمبر) عام 2001، واندلاع الحرب على الإرهاب، واستغلال الدنيا كلّها ومنها رئيس وزراء العدو الإسرائيلي شارون لتلك الأحداث، من أجل ضرب القضية الفلسطينية، ومحاصرة العرب بين دينهم وقوميتهم من جهة، وعيشهم وسلامهم وتماسُكهم من جهةٍ أُخرى. أمّا بعد صيرورتي رئيساً للحكومة اللبنانية فقد جالستُهُ مرات عديدة، وتحدثت إليه عشرات المرات، وما تغيَّرت انطباعاتي عنه، وإنما ازدادت عمقاً وامتداداً، وانفتحت على الآفاق التي أتاحها القائدُ ورجل الدولة بعد أن تولّى زِمام الأمور في المملكة العربية السعودية في العام 2005.

زرتُ المملكة مرةً أولى لتعزية الملك وكبار الأُمراء وشعب المملكة الشقيق بوفاة الراحل الكبير الملك فهد بن عبد العزيز. ثم زرتُها لتهنئة الملك عبد الله، وبدء الحديث معه عن قضايا لبنان والمنطقة. وفي هاتين المرتين بالذات شهدْتُ المنطلقات الداخلية والعربية والدولية والخطوط التي بدأت تتوحَّدُ وتتّسِقُ وتستوي في شتى الاتجاهات، بسلاسةٍ ورحابةٍ ينمّان عن رؤيةٍ واضحةٍ، وجهدٍ كبيرٍ ومسؤول. ويبدو أنّ المشروعات والخِطط على غير صعيد كانت مُعَدَّةً إلى هذا الحدّ أو ذاك، فالملك عبد الله بن عبد العزيز دخل في الشأن العامّ منذ أكثر من خمسةٍ وثلاثين عاماً، وزادت مسؤولياتُه في فترة مرض العاهل الراحل الملك فهد، ولذلك كان بوُسعه فعل الكثير، والتخطيط للكثير. والواقعُ أنّ كلَّ عملٍ سياسيٍ بارز إنما يستند إلى ثلاثة عناصر: الرؤية، والأهداف والسياسات والإمكانيات المتاحة أو المحشودة للسير فيها وتبدو هذه العناصر كلُّها في عمل الملك وسياسات المملكة خلال العامين الماضيين.

في مجال الرؤية كانت المملكة وكان العالمان العربي والإسلامي في خضمّ تطوراتٍ زاخرةٍ وهائلة: فالإسرائيليون يزيدون من ضغوط الاحتلال والإرهاب على الفلسطينيين، والعراق وأفغانستان محتلاّن، والعرب يتعرضون لضغوطٍ هائلةٍ من الخارج بسبب الحرب على الإرهاب والسياسات الدولية غير العادلة وغير المنصفة، ولانسداد الأفق أمام الحلول الحقيقية لمشاكل المنطقة، ولظهور التشدد والتطرُّف، والذي صار مضراً لجهتين. لجهة تهديد الاستقرار، والإساءة إلى الإسلام والمسلمين في العلاقة مع العالم، ولجهة إقبال جهاتٍ عربية وإقليمية ودولية على استخدام المتطرفين ضد الدول والمجتمعات في العالمين العربي والإسلامي.

في المجال الداخلي شهدْنا في السنوات الأخيرة النهضة التنموية الكبرى التي أطلقها الملك عبد الله بن عبد العزيز وقادها وما يزال. وإذا كان وَجْهُ المملكة قد تغيَّر كثيراً في عهد الملك فهد، فلا شكَّ أنه في عهد الملك عبد الله سيبلُغُ آفاقاً ـ إن أمكن التساوُق فيها مع جهود الإخوة الخليجيين والعرب الآخرين ـ تُوصِلُ إلى التكتل الاقتصادي/ التكنولوجي العربي، الذي يستطيع التعامل مع التكتلات الكبرى في العالم على قَدَم النِدّيّة والاعتماد المتبادَل والإنتاج المتطور والكبير. وقد ترافق ذلك مع إصلاحٍ وتطويرٍ إداريَّين، وانطلاقة أُخرى لمجلس الشورى. ومما له دلالتُهُ أنّ الخطوات الإصلاحية الكبرى كانت تظهر في كلمات الملك في افتتاح دورات مجلس الشورى. كما أنّ نقاشات الإصلاح الديني والفكري والثقافي والوطني، ظهرت وتظهر في مؤتمرات وندوات الحوار الوطني التي أطلق الملك فكرتَها منذ كان ولياً للعهد. وللأسرة السعودية تقاليد في اللقاء المباشر، والحوار المباشر مع الناس. لكنْ في عهدَي الملك فهد والملك عبد الله تساوقت تلك التقاليد العريقة، مع الشورى المؤسَّسية في اجتماعات مجلس الوزراء، ومجالس التخطيط والتوجيه والدراسات، ومن خلال مجلس الشورى، ولقاءات الحوار الوطني، وموجات النموّ المتصاعدة، والتطوير الذي دخل على الإدارة المحلية والمناعات المدعومة للطبقة الوسطى والمجتمع المدني.

أما «الإعلان» عن الرؤية الجديدة على مدى العالَم الإسلامي، والعالَم الأَوسع، فقد ظهرت في القمة الإسلامية التي دعا إليها الملك عبد الله بن عبد العزيز بمكة، وحضرها رؤساء وممثلو 56 دولة إسلامية، بالإضافة إلى عشرات الوفود غير الرسمية. قال جلالة الملك إنّ الإسلام بخير، لكنّ المسلمين يخوضون مخاضاتٍ عسيرةً دولاً ومجتمعات. وذلك يعود إمّا إلى سوء الإدارة أو التشدُّد أو الخلافات الداخلية ومع الخارج. والمطلوب ثلاثة أمور: الإحسان والإصلاح في إدارة الشأن العامّ بما يؤدي إلى خدمة ديننا وأوطاننا، والالتفاف والتوحُّد حول قضايانا الكبرى وفي مقدمتها قضية فلسطين. والتعامُل مع العالم بانفتاحٍ لكنْ بندّيةٍ ومسؤولية.

إنّ المعروف عن المملكة العربية السعودية أنها لا تدخل في محاور، ولا تشارك في نزاعاتٍ داخليةٍ عربيةٍ أو إسلامية. بيد أنّ خطابَ الملك عبد الله بن عبد العزيز في مؤتمر قمة مكة، والذي دعا إليه هو، دلَّ على أنه اختار نهج المبادرة، وليس المساعدة والاستحثاث فقط. وقد كانت رؤية التحديات وراء المصير إلى المبادرة في شتى المجالات: الداخلية والعربية والإقليمية والدولية. والذي يتابع حركة الملك وسياسات المملكة منذ العام 2005 يلاحظُ أنّ الملكَ وفي نهجه الإصلاحي وفي دعوته إلى الانفتاح والاستفادة من تجارب الآخرين وبما يتلاءم مع قواعد الدين الحنيف وكذلك بما يسهم في التعريف بقضايا أمتنا المحقة، ومكافحة صراع الحضارات، وإبراز الرؤى المشتركة للعرب والإسلام، زار الولايات المتحدة مرتين، وزار الدولَ الأوروبية الرئيسية، وزار الصين والهند وباكستان واندونيسيا وماليزيا، فضلاً عن زيارته لمصر غير مرة، ولكثيرٍ من الدول العربية. وفي كلٍ من تلك الزيارات، ما كانت العلاقاتُ الثُنائيةُ وحدَها في قلب الحديث، بل الأوضاع في المشرق العربي، وما يجري في فلسطين، وكيف يمكنُ الخروجُ من المأزق العراقي، وكيف يمكنُ صَونُ مستقبل أولادِنا وفتْيانِنا بعيداً عن التطرف والعنف، وكيف يمكن إيقاف هذا الاضطراب المندلع في كثيرٍ من بلدان العالمين العربي والإسلامي. وفي نفس السياق، سياق المبادرة وليس انتظار التطورات، أو الخضوع لنتائج سياسات الآخرين، أرسل الملك عبد الله وزير خارجيته ومبعوثين آخرين إلى إيران، واهتمّ بإرسال مُوفَدين إلى سورية، وكُلُّ ذلك من أجل خَفْض التوتر السني الشيعي، ومن أجل الحديث في أزمتي لبنان والعراق. وعندما أحسَّ أنّ الاتَّصالات بدأت تؤْتي ثِمارَها، وأنه لا بد من مواجهة التحديات المتصاعدة بالمبادرة كما سبق القول أقدم على عقد مؤتمر القمة العربية بالرياض، ليكونَ بين أهمّ مقرراته: إعادة إطلاق المبادرة العربية للسلام، والتحرك في جهدٍ مشتركٍ من أجل جمع الصفّ العربي، وإقناع الأطراف الدولية بأنّ قضية السلام ما عادت تستطيع الانتظار.

لقد كثُر الاستشهاد خلال العقود الخمسة الماضية بمسرحية الإيطالي لويجي بيرانديللو بعنوان: «ست شخصيات تبحثُ عن مؤلِّف». والواقعُ أنَّ المؤلِّف ـ بكل المعاني ـ للأوضاع العربية والإسلامية الحاضرة هو الملك عبد الله بن عبد العزيز. وقد كنتُ أمزحُ مع بعض الأصدقاء وأنا استمع إليه يحدثني عن كلمةٍ للأمير سعود الفيصل في اجتماعٍ رسمي، انتقد فيها الأوضاعَ العربية، وقلتُ له: إنني سمعتُ هذا النقد وما يُشبهه مراراً مـن الأمير سعود، وسمعتُهُ قبل ذلك من الملك عبد الله بن عبد العزيز، فالملك والأمير بهذا المعنى يقعان في طليعة «المعارضة» للسائد والخامل والانقسامي في الواقع العربي! فلا يصحُّ بحسب جلالة الملك، وبحسب الأمير سعود الفيصل أن نبقى نعمل ضدّ أنفسنا وأمتنا، كما لا يصحُّ أن نخضع لقرارات غيرنا، ولا يصحُّ أخيراً أن نتخلَّى عن مسؤولياتنا تُجاه قضايانا الكبرى، وعذابات شعوبنا. ولذلك تتوسَّع الاتصالات، وتتكاثر وتتقاطع المشروعات والاقتراحات، لكنّ الرؤية تبقى واحدة، والأهداف معروفة، الوصول إلى حلٍ عادلٍ وشامل للقضية الفلسطينية ولإنهاء معاناة الشعب الفلسطيني، والعودة بالعراق إلى الحرية والسلام والوحدة، وإحلال الاستقرار في الدول العربية بمعنيين: مكافحة التشدد، ونشر التنمية والتطوير. ولا سبيل للسير في ذلك كلّه إلاّ بالسياسات الجماعية المستقلة وغير الصراعية.

ولا أجِدُ مثلاً على السياسات المنتهَجة من الملك عبد الله لتحقيق تلك الأهداف خيراً من فلسطين ولبنان وأنا لا أتحدثُ هنا عن علاقة المملكة بالقضية الفلسطينية، وهي تعود للعام 1945 بل أتحدثُ عن الدخول القوي للملك عبد الله بن عبد العزيز لإنقاذ «السلام الشامل والعادل» بعد أن تخلّت عنه إسرائيل والولايات المتحدة على حدٍ سواء. ما تردد الملك عبد الله (ولي العهد آنذاك) في طرح مبادرته ببيروت عام 2002، وكما سبق القول، كان ذلك تعبيراً عن الاقتناع بالتسْوية التي تحفظ الحقوق، ومنها الحق في إنشاء الدولة التي عاصمتها القدس للفلسطينيين. واندلع العنف بالمنطقة نتيجةَ إعادة احتلال الضفة وغزة من جانب إسرائيل، ونتيجة احتلال أفغانستان والعراق من جانب الولايات المتحدة على أثر أحداث سبتمبر 2001. واشتدّت الضغوط، واشتدّ الحصار على العرب. وكان رأي خادم الحرمين الشريفين ولياً للعهد وملكاً أنّ أحداً لا يستطيعُ إلغاء الشعب الفلسطيني، كما أنّ أحداً لن يستطيع تغيير طبيعة الإسلام السمْحة. لكنّ سياسات إسرائيل، وسياسات الولايات المتحدة التي تقوم على استخدام القوة، وعدم النظر إلى الأسباب الحقيقية لليأس المتزايد وانسداد الأفق أمام التغيير وأمام تحقيق السلام الشامل والعادل حَريةٌ بأن تخدم المتطرفين، إذ إنّ كثيراً من الشبّان سيزدادُ حَنقُهُم نتيجة تفاقُم المشكلات، والضغوط الخارجية التي لا تُطاق. وهكذا فقد كان الترحيبُ الدوليُّ الذي لقيته المبادرة في إعادة إطلاقها دليلاً على الفُرَص الكبيرة المفوَّتة أو المغصوبة، والتي أدت إلى ما نزل بالطاقات وبالبشر وبالحريات وبالاستقرار. على أنّ المسؤولين في المملكة ما توقّعوا أن تعود الأمور إلى أسوأ مما كانت بين الفلسطينيين بعد القمة وبعد «عهد مكة» ومع ذلك فإنّ المملكة ما انكفأتْ ولا تراجعتْ ولا زهِدَتْ بعد استيلاء حماس على غزة، وعادت تُحاولُ مع مصر أن تُساعد الفلسطينيين على استعادة وحدتهم، وتجديد قُدراتهم في وجه العدوّ، وفي وجه الأصدقاء ومدّعي الصداقة.

وكما سبق القول فإنّ الملك عبد الله والأمير سعود الفيصل تحدثا مراراً عن القرار، والقرار العربي الحُرّ، ولعلَّ هذا الأمر هو الذي ينبغي على الإخوة الفلسطينيين أن يضعوهُ نُصب أعينهم، حتى لا تضيع نضالاتُ مائة عام، فقدوا فيها مليون شهيدٍ وأكثر، وفقدوا ما هو حيويٌّ وأساسيٌ لاحترام كرامة الإنسان: الأرض والمستقرّ. أمّا الملك عبد الله فإنّ القدس ـ التي أراد شقيقه الراحل الملك فيصل أن يصلّي في مسجِدها الأقصى ـ ما تزال عنده أُولى القبلتين وثالث الحرمين، ومناط الشرف والعروبة.

ولبنانُ، وسياساتُ الملك والمملكة إزاءه، مَثَلٌ آخَرُ على النهج السعودي المبادِر. أول ما تحدثتُ مع الملك عن لبنان قبل حوالي السنتين كان مُلتاعاً ومجروحاً وعظيم الأمل في الوقتِ نفسِه. كان مُلتاعاً لمقتل الرئيس رفيق الحريري، ابن لبنان والمملكة والعرب. وقد قال لي إنّ هذا الرجل كان عالَماً وحده، وكان شديد الوفاء، وكان بانيَ ومعمِّرَ أَوطان، وهو فخرٌ للعرب، ولن يضيع دمُه، وسوف ترى أنّ التحقيق الدوليَّ لن يتوقف حتى الوصول إلى كشف الجريمة والمجرمين. أمّا أملُهُ فكان في وحدة الشعب اللبناني، وإقباله على بناء دولته ووحدته واستقلاله من جديد. اللبنانيون ـ كما قال ـ أسهموا في بناء الدول والأنظمة والتقدم عند العرب وفي العالم. وإذا تُركوا لوحدهم ولضمائرهم فسيعملون العجائب، وسيفيدون أنفسهم والعالَم. وقال الملك: نحن معكم بشتّى الطُرُق، وسوف تشعرون بذلك: بالدعم السياسي والدبلوماسي وبالمساعدة المادية، وبالمساعدة في الإعمار وفي التطوير وفي تحقيق النمو الاقتصادي المستدام وفي إعادة بناء القُدُرات العسكرية والأمنية، وبالمساعدة في تأمين جنوب لبنان، وفي إعادة بسط سلطة الدولة على سائر الأرض اللبنانية. ووقتها (أي في الاجتماع الثالث بجلالة الملك) بدأْنا التفكير معاً في مؤتمر باريس ـ3. وفي الوقتِ نفسِه بدأت اتصالات الملك بي تتكثّف على أثر كلّ حدثٍ أو جريمة اغتيال. وفي كثيرٍ من الأحيان كنتُ أنوي الاتصالَ به للتشاور معه في أمرٍ ما فيسبق هو إلى الاتّصال.

وفي تلك الفترة، وخلال حرب تمّوز، بدأت تتكرر على لسانه النصيحة لي وللبنانيين بالصمود والصبر. وخلال الحرب والحصار في شهري تموز وآب فقد تعددت اتصالاتُه، وعلمتُ أنه يعملُ على مدار الساعة لوقف الحرب على لبنان، ولمساعدة المهجَّرين والمصابين، ولإعادة الإعمار، وإعادة جَمْع شمْل اللبنانيين. وعندما جاء الأمير سعود الفيصل إلى بيروت لاجتماع وزراء الخارجية العرب الاستثنائي قال لي إنّ الملك لا يخشى على لبنان من إسرائيل بسبب شجاعة المقاوِمين، وجرأة اللبنانيين، لكنه ينتظرُ منا أن لا نعودَ للانقسام بعد الحرب، وأن نبذل كلَّ جَهدٍ ممكنٍ لاحتضان سائر اللبنانيين. وبعد يومين، وفي أحد اتصالاتِه معي قال لي: إنّ لبنانَ سينجو بفضل صمودِكم، وحرص العرب والمجتمع الدولي عليكم، لكنني أُريدُ منكم أن تحرصوا على أنفُسِكُم ووحدتِكُم، أمّا التدخلات الخارجية فنحن كفيلون بإحباطِها.

وهكذا فهناك أربع محطّات إذا صحَّ التعبير في عناية الملك والمملكة بلبنان بعد استشهاد الرئيس الحريري. في المرحلة الأولى بعد الاستشهاد أطلقت السعوديةُ حملةً عربيةً ودوليةً لصَون الأمن في لبنان، ومساعدته على استعادة عافيته واستقلاله. وقد بلغتْ هذه المحطّة ذِروتَها في مؤتمر باريس ـ 3 الذي وضع الأساس لمستقبلٍ اقتصاديٍ آخر للبنان خارجَ دوّامة العجز والدين. والمحطة الثانية بدأت قبل حرب تموز بقليل عندما تكاثرت الاغتيالات، وتَراجع الحوار الوطني، وازدادت أثناء الحرب، وهي تتمثّل في الدعم الاقتصادي والسياسي لاستعادة العافية والمسار. أمّا المحطّة الثالثة والتي تطورتْ بعد تفاقُم الأزمة وتفاقُم الانقسام وما تزال مستمرةً حتى اليوم؛ فتتمثَّل في القيام بمبادراتٍ لجمع اللبنانيين ولإعادة السويّة إلى اجتماعهم السياسي، وإجراء الاتصالات الإقليمية والدولية لكَفّ التدخلات الخارجية أو إعادة توجيهها لصالح الوفاق في الداخل اللبناني. أمّا المرحلة الرابعة فجاءت عشية ظهور مؤامرة ما يُسمَّى بـ«فتح الإسلام» والتي عنتْ أنّ التطرف كما يمكن أن يعمل لأهدافه التخريبية الخاصة، يمكن أيضاً أن يُستعملَ من جانب جهاتٍ أخرى وبوعيٍ وبدون وعيٍ. وقد وقفت المملكة مع لبنان لجهة دعم أجهزته الأمنية والسياسية ولجهة تبادُل الرأي بشأن استيعاب الموقف، وصون وحدة المسلمين، والعلاقة بين اللبنانيين والفلسطينيين.

وخلال المراحل الأربع ظهرت عناية الملك عبد الله بن عبد العزيز بلبنان من ضمن سياساته في العالم العربي لإعادة الاستقرار، والتوجُّه من جديد لمعالجة القضايا الكبرى، والانطلاق في عمليات التنمية الواسعة، التي تفتح الأفق على مستقبلٍ آخر للعرب. وقد ظلّ في المراحل كلِّها، وحين قابلته للمرة السادسة في الرياض قبل أسابيع، ودوداً وحانياً، وواسعَ النظر والرؤية، وشديدَ الثقة بقدرة الإنسان العربي على الخروج من المآزق والأحابيل مهما تعقَّدت الأوضاع. وطبيعيٌّ أن أشعُر تَُجاهَهُ، وتُجاه كبار المسؤولين بالمملكة ببالغ التقدير والاحترام من خلال تجربتِي معه ومعهم خلال السنتين الماضيتين. قلتُ له مرةً، على أثر حَدَث مأساوي في فلسطين ولبنان: في فلسطين يا جلالةَ الملك ينبغي أن تبقى الرايةُ عربية، واقتتال الإخوة الفلسطينيين ينذر بأخطر العواقب على سائر العرب. أمّا في لبنان فنحن خطكم الدفاعي الأمامي، والاضطرابُ عندنا ينبغي أن يُواجَهَ من سائر العرب، وفي طليعتهم أنتم. وضحك جلالة الملك بوُدٍ وتسامُح وقال: لا تحتاج يا أخي للتذكير لتُبيِّن لي خطورةَ الوضع في فلسطين ولبنان. ونحن ما تأخرْنا ولن نتأخَّر ليس لأنَّ ما يحصُلُ عندكم وفي فلسطين والعراق فيه خطرٌ علينا فقط؛ بل ولأنَّ هذا واجبُنا العربي والأخلاقي، والذي أسألُ الله سبحانه التوفيقَ في أدائه.

لدى القيادة السعودية رؤيةٌ وأهدافٌ تتصلُ بالاستقرار العربي، واستعادة العرب زِمامَ أُمورِهِمْ وقضاياهم. وقد حَشَدَت المملكة طاقاتٍ وإمكانياتٍ تحولت إلى قُدُراتٍ ومبادراتٍ لحلِّ المشكلات الداخلية العربية، ولتصحيح العلاقة بين الدول العربيةِ، ومع دول الجوار العربي، ولتغيير السياسات الأميركية بالمنطقة، ولوضْع أُسسٍ للاستقرار في المستقبل من طريق السلام الشامل والعادل، ومن طريق نُصرة الاعتدال في سياسات المنطقة وفي العلاقة بالخارج، ومن طريق الإصلاح الديني والسياسي والإداري والتنموي. ومن الطبيعي أن لا تنجح كلُّ خطوة أو أن لا تصِلَ إلى المدَيات التي أمَّلْناها منها. لكنّ هذه القيادة تحضُرُ بعد تخثُّر وفراغ، وتحضُرُ بعد حصاراتٍ وحروبٍ وغزواتٍ على العرب والمسلمين، وبعد ضياعٍ للقرار والاستقرار. ولذلك فإنّ المرجوَّ أن تكون التعثُرات ـ إن مشينا معاً ـ مشكلاتٍ في طريق النجاح، وليس في طريق الفشل لا سمح الله.

أمّا الملك عبد الله بن عبد العزيز، الإنسان الكبير، والقائد الكبير، والفارس النبيل، فرعى الله ودَّه، وأطالَ عهدَه، ومتَّعَنا بوجوده وعملِه، جزاءَ ما قدَّم وأسهم، وجزاءَ ما سعى وكافح، من أجل عزَّة وتقدُّم المملكة، حصن العرب والمسلمين، ومن أجل خير الأمة العربية، وسلامِ لبنان وحريته وعروبته وسيادته واستقرار نظامه الديمقراطي وعيشه المشترك.

* رئيس وزراء لبنان