الأردن و«الإخوان»: وداعاً لأيام زمان!

TT

وصلت العلاقة التاريخية بين الإخوان المسلمين والأردن، الدولة وليس الحكومة فقط، الى نقطة الافتراق ففي الأيام الأخيرة كانت هناك انتخابات بلدية، وقد خاض هؤلاء معركة هذه الانتخابات بكل إمكاناتهم لكنهم عندما شعروا، بعد نحو خمس ساعات من بدء توجه الناخبين الى صناديق الاقتراع، بأن الرياح تجري لغير مصلحتهم بادروا الى الانسحاب وسحب مرشحيهم بحجة أن هناك تزويراً وأن هناك استهدافاً لهم لإسقاطهم! ولعل ما تجب الإشارة إليه هنا أن هذه الانتخابات «البلدية» على أهميتها إلا أنها ازدادت أهميتها هذه المرة لأنها تأتي قبل الموعد شبه المقرر للانتخابات التشريعية التي ستجري إن لم يطرأ طارئ معرقل، إن في الأردن وإن في هذه المنطقة الملتهبة، في نحو منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل والتي تعتبر بمثابة اختبار قادم بين الإخوان المسلمين والدولة الأردنية.

العلاقة بين الإخوان المسلمين والدولة الأردنية بدأت في وقت متقدم جداً، عندما كانت هذه الدولة لم تنتقل من وضعية الإمارة (إمارة شرق الأردن) الى وضعية المملكة (المملكة الأردنية الهاشمية) ولقد تحولت هذه العلاقة الى تحالف بين الطرفين في عقد خمسينات القرن الماضي عندما اشتد الصراع بين المعسكرين، الغربي الرأسمالي والشرقي الاشتراكي، وعندما وصلت الحرب الباردة بين هذين المعسكرين الى ذروتها وبدأت ظاهرة الانقلابات العسكرية، التي وصفت نفسها بأنها قومية ويسارية وتقدمية، تزحف نحو الأنظمة الملكية المعتدلة التي كان يصفها الانقلابيون وأتباعهم وأحزابهم بأنها رجعية ومتخلفة!!

في تلك الفترة تعرض الأردن لاختبار صعب كاد يقضي على كيان الدولة الأردنية، عندما استطاع الضباط المتحزبون، المتأثرون بالانقلاب الذي قاده الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر ضد الملك فاروق، والذي أصبح اسمه ثورة يوليو (تموز)، الاقتراب من مواقع الحكم وبات تأثيرهم فعلي وكاسح على حكومة سليمان النابلسي التي وُصفت بـ«الحكومة الوطنية» والتي كانت ترتبط بأكثر من صلة مع القاهرة.

لقد كان ذلك في عام 1957 ولقد اصطفت كل الأحزاب القومية واليسارية، حزب البعث والحزب الوطني الاشتراكي وحركة القوميين العرب والحزب الشيوعي، الى جانب حكومة سليمان النابلسي والى جانب الضباط الذين كانوا قد أطلقوا على أنفسهم، تيمناً بالتجربة الناصرية في مصر، اسم: «الضباط الأحرار»، وبهذا فإنه لم يبق خارج هذه الدائرة إلا «الإخوان المسلمون» الذين كانوا لم يصبحوا قوة مؤثرة وفاعلة بعد في الساحة الأردنية.

بعد ذلك الاختبار الصعب وبعد إفشال تلك المحاولة الانقلابية، وبعد إسقاط حكومة سليمان النابلسي المحسوبة على الخط الناصري والمستندة الى ثكنات الجيش من خلال مجموعة «الضباط الأحرار» بادر الأردن الى حلِّ الأحزاب القومية واليسارية كلها وأغلق صفحة «الديموقراطية»، التي كانت صفحة ديموقراطية بالفعل، فخلا الجو لـ«الإخوان المسلمين» الذين أُعطوا امتيازات، ربما لا يستحقونها، إذا تم تقويم الأمور من خلال نظرة الى الخلف بعيدة عن ضغط الأحداث وأجواء الحرب الباردة وصراع المعسكرات.

هذه مرة.. أما المرة الثانية فقد كانت في عام 1970 عندما اندلعت أحداث سبتمبر (أيلول) الشهيرة بين الدولة الأردنية والفدائيين الفلسطينيين حيث اتخذ الإخوان المسلمون موقفاً محايداً، لكنه كان أكثر انحيازاً للموقف الأردني وحيث انحازت كل الأحزاب الأخرى، القومية واليسارية، انحيازاً كاملاً الى الفصائل الفلسطينية والحقيقة أنها كانت قد أصبحت عشية هذه الأحداث جزءاً من هذه الفصائل ومن منظمة التحرير.

وهكذا فقد أصبح «الإخوان المسلمون» الحزب العلني الوحيد في الأردن، وهكذا فقد تمكن هذا الحزب، بتشجيع من حكومات تلك الفترة المتعاقبة التي كان قد شارك في بعضها، من التسرب في كل المؤسسات الحكومية واستطاع لأنه أُعطي وزارة التربية ووزارة الأوقاف، وهما أهم وزارتين في دولة كالدولة الأردنية، الإسلامية من جهة والنامية من جهة أخرى السيطرة على الكثير من مفاصل السلطة والتأثير على الشريحة الأكبر في المجتمع الأردني كله.

في هذه الفترة الممتدة بين عام 1957 وأوائل تسعينات القرن الماضي أصبحت الأحزاب القومية واليسارية نُتفاً متناثرة لا تأثير لها في الحياة السياسية الفعلية وكل هذا حتى وإن كانت هذه الأحزاب تسيطر على النقابات المهنية وتعلن عن وجودها بإصدار البيانات الصاخبة في كل مناسبة وطنية وقومية وعالمية وبهذا فإن «الولد المدلل»، الذي هو «الإخوان المسلمون»، قد استحوذ على كل شيء خلال كل الفترة الممتدة منذ منتصف خمسينات القرن الماضي، وحتى انتهاء الحرب الباردة مع بدايات العودة الى المسار الديموقراطي.

والحقيقة أن انتهاء الحرب الباردة وانتهاء صراع المعسكرات، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، قد أنهى شهر عسل الإخوان المسلمين مع الدولة الأردنية، فالأردن الذي عاد الى المسار الديموقراطي، الذي غاب طوال فترة نحو ثلث قرن، لم يعد مقبول منه أن يبقى على احتضانه لهؤلاء كولد مدلل والإخوان المسلمون الذين فقدوا مواقعهم في حضن النظام بدأوا يتصرفون على طريقة الطفل المشاغب الذي لا يتورع عن القيام بأي شيء من أجل إجبار والده على إعادته الى حضنه.

وهنا فإنه تجب الإشارة إليه في معادلة التباعد والتقارب هذه هو أن هناك عاملاً آخر في غاية الأهمية هو أن الأجيال الصاعدة في حزب الإخوان المسلمين قد تأثرت أولاً بحركة «حماس» التي انطلقت في عام 1987 ثم بظاهرة أفغانستان وبكل ما نتج عنها من تطرف لم يوفر حتى الدول العربية التي تعتبر محافظة ومعتدلة وفي مقدمتها الأردن والمملكة العربية السعودية.

لقد استطاع هذا التيار بمساعدة حركة «حماس»، معنوياً وأيضاً ماليّاً كما يقال، أن يهيمن على قرار الإخوان المسلمين وأن يوجه تحالفاتهم، الداخلية والخارجية، ولذلك فقد كان التحالف مع الأحزاب القومية واليسارية على الصعيد الداخلي وكان الإنحياز لـ«القاعدة» وأسامة بن لادن وأيمن الظواهري ولحزب الله وحسن نصرالله وحتى لإيران و«فسطاط الممانعة» وكان التأييد بلا أي تحفظ لأكثر العمليات دموية وأشدها إرهاباً حتى تلك التي استهدفت دولاً عربية وإسلامية.

لم يعد الإخوان المسلمون، بعد بدايات تسعينات القرن الماضي، هم الإخوان المسلمين السابقين، فقد أصحبت علاقاتهم بالدولة الأردنية يحكمها العداء الأعمى المستحكم ولقد باتوا لا يرون إلا السلبيات في مسيرة هذه الدولة. ولقد أصبحوا لا يتورعون عن نسج علاقات خارجية مثيرة للشكوك ضد الأردن وضد كل سياساته ومواقفه وممارساته.

ولذلك ولأنهم وقفوا مع «حماس»، حتى في انقلابها الأخير في غزة ضد السلطة الوطنية، ولذلك ولأنهم بقوا يضعون صورة أسامة بن لادن ولفترة طويلة بحجم الصفحة الأولى كلها في اسبوعية «السبيل» التي تنطق باسمهم ثم ولأنهم ينحازون الى إيران والى حزب الله، فإنهم فقدوا مواقعهم السابقة في الشارع الأردني وفقدوا شعبية، تخلت عنهم بسبب انتقالهم من الضد الى الضد. لقد أصيب الإخوان المسلمون بعد انتهاء الحرب الباردة بالارتباك وباتوا يخبطون خبط عشواء وغدوا لا يتورعون حتى عن تأييد الظاهرة الإرهابية الممثلة أساساً بـ«القاعدة» وأسامة بن لادن من أجل الإمساك بشعبية بدأت تخرج من أيديهم، وهنا فإن لعل الأسوأ الذي زاد الحالة تردياً أنهم بقوا يجترون الماضي، وبقوا يرفضون مغادرة الدائرة التي وقفوا فيها منذ نهايات عشرينات القرن الماضي، وهذا هو الذي جعلهم يتحولون مع الوقت الى جسم غريب في الأردن وجعلهم يزدادون شططاً، وجعل الأكثر تطرفاً من بينهم يسيطرون على مقاليد الأمور!!

والآن وقد وصلت الأمور الى ما وصلت إليه، فإن الدولة الأردنية قد تلجأ الى الجراحة لمعالجة هذه الحالة التي أخذت تشكل خطراً وعبئاً على المجتمع الأردني والمقصود هنا هو سحب الامتيازات التي أُعطيت للإخوان المسلمين في ظروف سابقة هي غير هذه الظروف ومن بينها إلزام هؤلاء بأن إما أن يتحولوا الى حزب سياسي كباقي الأحزاب الأردنية، أو أن يصبحوا جمعية خيرية لتنتهي حكاية «الجماعة الإسلامية» التي لا هي معروفة على أنها حزب سياسي، ولا هي معروفة على أنها جمعية خيرية ومنعهم من الجمع بين عضوية «حزب الإخوان» وعضوية حزب جبهة العمل الإسلامي ثم وتطبيق القوانين النافذة التي يجري تطبيقها على كل المستشفيات والمؤسسات الخاصة على مستشفياتهم ومؤسساتهم وعدم اعتبارها من الآن فصاعداً مؤسسات خيرية معفية من دفع الضرائب!!