مبدعونا بين حلم التفرغ.. و فاتورة الكهرباء

TT

لا نعتقد أننا نجابه معارضة قوية، إذا قلنا إن المبدع العربي يعيش كافة أشكال التهميش والامبالاة، الشيء الذي أنتج في المخيال الاجتماعي العربي العام، صورة للكاتب وللمثقف العربيين غير مغرية بالمرة.

وطبعا بعض الكتاب والشعراء والفنانين، قد أسهموا بشكل كبير في نحت هذه الصورة الباهتة، وذلك بسبب تبنيهم لأنماط سلوك، تحط من رمزية الفعل الإبداعي وتسلب منه هيبته وقيمته، خصوصا أولئك الذين لا يتورعون عن التقرب المبتذل من الأنظمة والساسة بهدف حصد الجوائز والامتيازات والمناصب.

والى جانب هذا العامل يسعى الفاعل السياسي في البلاد العربية الى تضييق الخناق كي لا يفلت بعيدا عدد من الكتاب والمبدعين، يمكن أن يشكل حجمهم جبهة مهددة.

من جهة أخرى وبسبب انشغال البلدان العربية منذ الخمسينيات بقضايا التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فقد رأت مختلف النخب السياسية الحاكمة منذ الاستقلال أن الثقافة مسألة ثانوية، تأتي بعد تأمين الخبز والماء والكهرباء.

ولأنه لا بد من الثقافة، فقد تم الالتجاء الى وضع استراتيجية، تقوم بـ«دولنة» الفعل الثقافي والسيطرة على آليات الإنتاج الثقافي، بمعنى أنه في الدول العربية يصح الحديث عن ثقافة الدولة أكثر بكثير من الحديث عن دولة الثقافة، إذ أن التخلف حالة شاملة ولا تقتصر على الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية. بل إن البعد الثقافي هو أكثر الأبعاد فضحا وكشفا للتخلف في أي بلد كان.

لذلك نجد المبدع في بلدان عربية كثيرة شخصا منهكا ومشتتا بين لقمة العيش والإيجار وفاتورتي الكهرباء والماء وبين مشروع إبداعي، يهتم به بين الحين والآخر وعندما تجود ظروفه الصعبة دائما، بشيء من الوقت وبفسحة من الحلم.

وكنتيجة لمثل هذا التشتت والتمزق الحاد بين متطلبات الواقع والانشداد الى الإبداع، كفضاء للحلم وللبناء المعرفي والجمالي، أصبحنا نعاني من تدهور نوعي في الإبداع العربي، باستثناء قلة قليلة من تجارب توفرت لها بشكل استثنائي ظروف مشجعة للانكباب على مشروع إبداعي وقطع خطوات مهمة فيه.

لذلك فإن حالة التدهور المشار إليها مفهومة ومبررة باعتبار أن عملية الإضافة في أي مجال تشترط التركيز والتفرغ كي تتحقق، لا سيما أن الإبداع بحكم خصوصيته يحتاج أكثر من أي عمل آخر الى رأس فارغ من هوس التفكير في ما يسمى بالخبز اليومي، وذلك ليستطيع التحليق والحفر في المعنى والفكرة والصورة.

ولقد تفطنت البلدان المتقدمة الى أهمية هذه المسألة، فوفرت لمبدعيها حلولا يتفرغون من خلالها الى مشاريعهم الإبداعية ويتمتعون في نفس الوقت بامتيازات تقيهم الحاجة المادية وتوفر لهم أفضل سبل التفرغ للإبداع كما هو الحال في ألمانيا وفرنسا وغيرهما.

ويبدو أن شيئا من ريح التقدم بدأت تهب على العالم العربي، حيث بدأ في الأردن منذ 1 يوليو الماضي العمل بقانون جديد سمي بقانون التفرغ الإبداعي، وهو في الحقيقة ومن باب الموضوعية، يعتبر خطوة لافتة وغير مسبوقة في العالم العربي، ويستحق التنويه، خصوصا أنه يقدم للمبدع الأردني فرصة ذهبية للتفرغ لمدة سنة كاملة، ليس من الوظيفة فقط والمحافظة على الراتب الشهري، بل الى جانب ذلك يحظى بمكافأة مالية تقدر بحوالي 22 ألف دولار. ويتمتع حاليا منذ قرابة الأسبوعين تسعة مبدعون اختارتهم لجنة خاصة بقانون التفرغ الإبداعي نذكر منهم الشاعرين يوسف عبد العزيز وحكمت نوايسية...

مع العلم أنه في تونس قد أعلن منذ أكثر من سنة عن خطوة مشابهة تتمثل في تفريغ المبدع، الذي يشتغل في القطاع العام ستة أشهر قابلة للتمديد، ولكن لم يشرع في تنفيذها بعد.

إن هذه المكتسبات، خاصة منها ذات التجذر القانوني، تثلج الصدر وتدل على أنه لا يزال هناك في العالم العربي من يفكر بجدية في كيفية تطوير واقع الإبداع العربي.

لذلك فإن تبني قانون التفرغ الإبداعي بالنسبة الى باقي البلدان العربية وإخضاعه الى شروط إبداعية صرفة بعيدة عن تصفية الحسابات السياسية واعتماده في جدول أعمال وزراء الثقافة العرب، الذي سينعقد قريبا في الجزائر، سيساعد في ترميم الثقة المفقودة بين المبدع والسياسي في العالم العربي.

ونعتقد أن جامعة الدول العربية، التي لا تبدو فاعلة سياسيا، بإمكانها أن تلعب دورا ثقافيا والدفاع عن هكذا مبادرات والتعميم عربيا لقوانين تخدم في ظاهرها المبدع والمثقف العربيين، ولكنها في الجوهر وعلى المدى البعيد، تخدم مستقبل العالم العربي الذي يستحيل عليه النهوض من دون مبدعين يعيدون تشكيل الكائن العربي، وعيا وقيما وفعلا، خصوصا أن كل المآسي التي نعيشها اليوم هي ثقافية وذات علاقة ماسة وسببية بالمنظومة الثقافية العربية ومحدداتها التي تفعل فعلها في نمط التفكير وسرعان ما تطال أنماط السلوك.

[email protected]